جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قول الله - تعالى -: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 97]؛ أنه قال: «هم الفقهاء المعلِّمون»[1]، وفسَّر مجاهد قول ابن عباس - رضي الله عنهما - في الربانيين، فقال: (هم الذين يربُّون الناس بصغار العلم قبل كباره)[2].
قال ابن حجر معلِّقاً: (والمراد بصـغــار العــلم: ما وضح من مسائله، وبكـبـاره: ما دقَّ منها. وقيل: يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل مقاصده)[3].
فالربانية تعليم وتربية، والربانيون: (منسوبون إلى التربية)[4].
وما كان العلم يُطلَب إلا لتزكية النفوس وتهذيبها، والارتفاع بها عن سفساف الأمور ودنيئها.
فوظـيفة الرباني التدرُّج في تبليغ العلوم ونشر المعارف، فلا يُعَلَّم الطالب من العلوم ما لا يبلغه عقله، ويكون عليه فتنة، فنضرُّه من حيث أردنا نفعه.
قال الماوردي - رحمه الله -: (واعلم أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها، ومداخل تفضي إلى حقائقها، فليبتدئ طالب العلم بأوائلها لينتهي إلى أواخرها، وبمداخلها ليفضي إلى حقائقها، ولا يطلب الآخِر قبل الأول، ولا الحقـيـقة قـبـل المدخـل فلا يدرك الآخر، ولا يعرف الحقيقة؛ لأن البناء على غير أُسٍّ لا يُبنى، والثمر من غير غرس لا يُجنى)[5].
وعند تربية الأجيال فالرباني يجتهد في تأكيد صغار الفضائل والأعمال في المتربِّي، كما يبدأ المعلم في تعليمه بصغار العلوم وأوائلها.
ولا نطلب بذلك ترك الأهم على حساب المهم، وإنما نفترض في المجتمع أنه قد أقرَّ بفرائض الإسلام، وأن فئة المتربين منهم قد أدركوا أهمية الفرائض والقيام بها؛ فنحن نستفيد من النوافل والفضائل في حفظ الفرائض على ما سيأتي الحديث عنه لاحقاً.
إن من الناس من يقول بلسان مقاله أو بلسان حاله: إن الأمة مشغولة بما هو أهم وألزم عليها من هذه (الفروع!) فيـقع التقصير فيها من هذا الجانب، وقد نسي أولئك أن السلـف لم يكونوا يَدَعُون السنة ما استطاعوا إليها سبيلاً - حتى وهم يصارعون الأهوال في المعارك الفاصلة. ذكر الإمام الطبري: أنه لما نزل رستم النَّجَف بعث منها عيناً إلى عسكر المسلمين، فانغمس فيهم بالقادسية كبعض من ندّ منهم، فرآهم يستاكون عند كل صلاة ثم يصلون فيفترقون إلى مواقفهم، فرجع إليه فأخبره بخبرهم، وسيرتهم، حتى سأله: ما طعامهم؟ فقال: مكثت فيهم ليلةً، لا والله ما رأيت أحداً يأكل شيئاً إلا أن يمصُّوا عِيداناً لهم حين يُمْسُون، وحين ينامون، وقبيل أن يصبحوا.
فلمَّا سار فنزل بين الحصن والعتيق وافقهم وقد أذَّن مؤذِّن سعد الغداة، فرآهم يتحشحشون[6]؛ فنـادى في أهل فارس أن يركبوا، فقيل له: ولِمَ؟ قال: أما ترون إلى عدوكم قد نُودي فيهم فتحشحشوا لكم! قال عَيْنُهُ: ذلك إنما تحشحشهم هـذا للصلاة[7].
فـتأمَّل كيف لم يتركوا السواك للصـلاة ولا عند النوم والاستيقاظ منه! وانظر كيف ألقى الله في قلوب الفُرس الفزع ببركة هذه السنة.
ومـن الـناس مـن سـاء فهمه للسنن والآداب حتى رأى أنها قــشور! وهـذا مـن احــتقار المعـروف، وفي الحـديث عنه - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً»[8]، أي: لا تحقرنَّ أجره ولا أثره؛ فقد يكون الفارق بين النجاة والهلكة حسنة واحدة.
وهناك من الناس من يرى أنها قضية بدهية واضحة لا تحتاج إلى مزيد عناية ومتابعة وكأنما المقصود هو المعرفة الذهنية فحسب فيستكثر الجهود المصروفة لها، ويطلب الشغل بغيرها.
إن التوجيه القرآني يلقي في روع المسلم ضرورة العناية بما يزيد في ميزانه يوم القيامة، والحذر مما ينقصـه، وعدم الاسـتهانة ولو بمثقال ذرة من الخير أو الشر، قال - تعالى -: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8].
ويـؤكد العـناية وعدم الاستهانة حيث يخبر بالمضاعفة له أضعافاً كثيرة: {إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 04]. وقـد جرى حــال السلف على تعظيم الأمر وإن كان سُنَّةً والمبادرة إليـه دون تأخير؛ لأنـه أمر الله أو أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكـفى، كما قال الشافعي - رحمه الله - عن رفع اليدين في الصلاة قال: (فعلته إعظاماً لجلال الله، واتباعاً لسنة رسول الله، ورجاءً لثواب الله)[9].
بل إن من أهل العلم من لا يرى تقسيم الأوامـر إلى سنةٍ وواجب؛ فكل ما جاء عن الله - تعالى - أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو لازم الفعل قدر الإمكان: {وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 56]. «نقل إسحاق بن منصور عن إسحاق بن راهويه أنه أنكر تقسيم أجزاء الصلاة إلى سنةٍ وواجب، فـقال: كل مـا في الصلاة فهو واجب، وأشار إلى أن منه ما تُعاد الصلاة بتركه ومنه ما لا تُعاد. قال ابن رجب: وسبب هذا والله أعلم أن التعبير بلفظ السنة قد يفضي إلى التهاون بفعل ذلك، وإلى الزهد فيه وتركه، وهذا خلاف مقصود الشارع من الحث عليه والترغيب فيه بالطرق المؤدية إلى فعله وتحصيله؛ فإطلاق لفظ الواجب أدعى إلى الإتيان به، والرغبة فيه.
وقد ورد إطلاق الواجب في كلام الشارع على ما لا يأثم بتركه، ولا يعاقَب عليه عند الأكثرين، كغُسل الجـمعـة، وكـذا ليلة الضَّيفِ عند كثيرٍ من العلماء أو أكثرهم، وإنما المراد المبالغة في الحث على فعله وتركه»[10].
ويقول ابن عثيمين - عليه رحمة الله -: (ليس من الأدب مع الله ورسوله إذا أمــر الله بشيء أن تـقول: هو للوجوب أو للاستـحـبـاب، أو نهى الله عن شيء تقول: هو للكراهة أو التحريم.
وهكذا الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ هل كـان الصحابة يقولون هذا؟ هل يقولون إذا أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أنت عازم؟
ولكن عند وقوع المخالفة حينئذ ينظر الإنسان هل الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ هل النهي للكراهة أو للتحريم؟ وهذه مسألة مهمة.
تمام التعبد أنك إذا سمعت الله يأمرك تقول: سمعنا وأطعنا، ما تقول: هذا أمـر وجوب أو استحباب)[11].
كم يغفل بعض المربِّين عن التربية على كثيرٍ من شُعب الإيمان؛ كإماطة الأذى عن الطريق، وردِّ السلام، وتشميت العاطس، ودلالة الأعمى، والإفراغ في دلو المستسقي...إلخ، وهو الشيء الذي لم يُغْفِله النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل كان يربي عليه أصحابه؛ فعن أبي جري الهجيمي - رضي الله عنه - قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله! إنَّا قوم من أهل البادية، فعلِّمنا شيئاً ينفعنا الله -- تبارك وتعالى -- به! قال: «لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً، ولو أن تُفرِغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك وتسبيل الإزار فإنه من الخيلاء، والخيلاء لا يحبها الله - عز وجل -، وإن امـرؤ سبَّك بما يعـلم فيك فلا تسبَّه بما تعلم فيه؛ فإن أجره لك ووباله على من قاله»[12].
إن التربية على صغار الأمور حصن حصين من تضييع كبارها؛ فالمحافظة على السنن القبلية للصلاة سبيل للمحافظة على الصلاة المكتوبة، وإماطة الأذى عن الطريق مانع من الاعتداء على الناس وداعٍ إلى الإحسان إليهم؛ بل هو أول خطوة في ذلك، والصدقة النافلة تربية للنفس وتطهير لها عن البخل والطمع؛ وهي مع ذلك استعـداد مبـكر لإخراج الزكاة بطيب نفس، ولعل هذا ما أشار إليه ابن المبارك - رحمه الله - بقوله: (من تهاون بالأدب عُوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عُوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عُوقب بحرمان المعرفة)[13].
ثم التربية على صغار الأمور اتصال مستمر للتربية في ضمير المتربِّي تنديه بالإيمان، وتجنِّبه الغفلة واستحواذ الشيطان، وتبعد عنه قسوة القلب لطول الأمد: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 61].
ثم التربية على صغار الأمور والدعوة إليها تؤثر في صلاح الناس وتزيد من رصيد الخيرية فيهم؛ حتى وإن لم نشعر بذلك، فحين نلتزم في تربيتنا صغار الآداب والفضائل فإنها تبني في الناس صورة للخير يزداد حبهم لها، وتفعل في نفوسهم فعلها: (فإن الكلمة الصغيرة، والفعلة الهامشية لهما تأثير ترسُّبي ثقافي وأخلاقـي ما يفتأ يكثر، حتى يزداد الراسب الإسلامي تدريجياً، فيكون وعي الناس آنذاك لدقائق الفكرة أوفر)[14].
[
قال ابن حجر معلِّقاً: (والمراد بصـغــار العــلم: ما وضح من مسائله، وبكـبـاره: ما دقَّ منها. وقيل: يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل مقاصده)[3].
فالربانية تعليم وتربية، والربانيون: (منسوبون إلى التربية)[4].
وما كان العلم يُطلَب إلا لتزكية النفوس وتهذيبها، والارتفاع بها عن سفساف الأمور ودنيئها.
فوظـيفة الرباني التدرُّج في تبليغ العلوم ونشر المعارف، فلا يُعَلَّم الطالب من العلوم ما لا يبلغه عقله، ويكون عليه فتنة، فنضرُّه من حيث أردنا نفعه.
قال الماوردي - رحمه الله -: (واعلم أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها، ومداخل تفضي إلى حقائقها، فليبتدئ طالب العلم بأوائلها لينتهي إلى أواخرها، وبمداخلها ليفضي إلى حقائقها، ولا يطلب الآخِر قبل الأول، ولا الحقـيـقة قـبـل المدخـل فلا يدرك الآخر، ولا يعرف الحقيقة؛ لأن البناء على غير أُسٍّ لا يُبنى، والثمر من غير غرس لا يُجنى)[5].
وعند تربية الأجيال فالرباني يجتهد في تأكيد صغار الفضائل والأعمال في المتربِّي، كما يبدأ المعلم في تعليمه بصغار العلوم وأوائلها.
ولا نطلب بذلك ترك الأهم على حساب المهم، وإنما نفترض في المجتمع أنه قد أقرَّ بفرائض الإسلام، وأن فئة المتربين منهم قد أدركوا أهمية الفرائض والقيام بها؛ فنحن نستفيد من النوافل والفضائل في حفظ الفرائض على ما سيأتي الحديث عنه لاحقاً.
إن من الناس من يقول بلسان مقاله أو بلسان حاله: إن الأمة مشغولة بما هو أهم وألزم عليها من هذه (الفروع!) فيـقع التقصير فيها من هذا الجانب، وقد نسي أولئك أن السلـف لم يكونوا يَدَعُون السنة ما استطاعوا إليها سبيلاً - حتى وهم يصارعون الأهوال في المعارك الفاصلة. ذكر الإمام الطبري: أنه لما نزل رستم النَّجَف بعث منها عيناً إلى عسكر المسلمين، فانغمس فيهم بالقادسية كبعض من ندّ منهم، فرآهم يستاكون عند كل صلاة ثم يصلون فيفترقون إلى مواقفهم، فرجع إليه فأخبره بخبرهم، وسيرتهم، حتى سأله: ما طعامهم؟ فقال: مكثت فيهم ليلةً، لا والله ما رأيت أحداً يأكل شيئاً إلا أن يمصُّوا عِيداناً لهم حين يُمْسُون، وحين ينامون، وقبيل أن يصبحوا.
فلمَّا سار فنزل بين الحصن والعتيق وافقهم وقد أذَّن مؤذِّن سعد الغداة، فرآهم يتحشحشون[6]؛ فنـادى في أهل فارس أن يركبوا، فقيل له: ولِمَ؟ قال: أما ترون إلى عدوكم قد نُودي فيهم فتحشحشوا لكم! قال عَيْنُهُ: ذلك إنما تحشحشهم هـذا للصلاة[7].
فـتأمَّل كيف لم يتركوا السواك للصـلاة ولا عند النوم والاستيقاظ منه! وانظر كيف ألقى الله في قلوب الفُرس الفزع ببركة هذه السنة.
ومـن الـناس مـن سـاء فهمه للسنن والآداب حتى رأى أنها قــشور! وهـذا مـن احــتقار المعـروف، وفي الحـديث عنه - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً»[8]، أي: لا تحقرنَّ أجره ولا أثره؛ فقد يكون الفارق بين النجاة والهلكة حسنة واحدة.
وهناك من الناس من يرى أنها قضية بدهية واضحة لا تحتاج إلى مزيد عناية ومتابعة وكأنما المقصود هو المعرفة الذهنية فحسب فيستكثر الجهود المصروفة لها، ويطلب الشغل بغيرها.
إن التوجيه القرآني يلقي في روع المسلم ضرورة العناية بما يزيد في ميزانه يوم القيامة، والحذر مما ينقصـه، وعدم الاسـتهانة ولو بمثقال ذرة من الخير أو الشر، قال - تعالى -: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8].
ويـؤكد العـناية وعدم الاستهانة حيث يخبر بالمضاعفة له أضعافاً كثيرة: {إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 04]. وقـد جرى حــال السلف على تعظيم الأمر وإن كان سُنَّةً والمبادرة إليـه دون تأخير؛ لأنـه أمر الله أو أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكـفى، كما قال الشافعي - رحمه الله - عن رفع اليدين في الصلاة قال: (فعلته إعظاماً لجلال الله، واتباعاً لسنة رسول الله، ورجاءً لثواب الله)[9].
بل إن من أهل العلم من لا يرى تقسيم الأوامـر إلى سنةٍ وواجب؛ فكل ما جاء عن الله - تعالى - أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو لازم الفعل قدر الإمكان: {وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 56]. «نقل إسحاق بن منصور عن إسحاق بن راهويه أنه أنكر تقسيم أجزاء الصلاة إلى سنةٍ وواجب، فـقال: كل مـا في الصلاة فهو واجب، وأشار إلى أن منه ما تُعاد الصلاة بتركه ومنه ما لا تُعاد. قال ابن رجب: وسبب هذا والله أعلم أن التعبير بلفظ السنة قد يفضي إلى التهاون بفعل ذلك، وإلى الزهد فيه وتركه، وهذا خلاف مقصود الشارع من الحث عليه والترغيب فيه بالطرق المؤدية إلى فعله وتحصيله؛ فإطلاق لفظ الواجب أدعى إلى الإتيان به، والرغبة فيه.
وقد ورد إطلاق الواجب في كلام الشارع على ما لا يأثم بتركه، ولا يعاقَب عليه عند الأكثرين، كغُسل الجـمعـة، وكـذا ليلة الضَّيفِ عند كثيرٍ من العلماء أو أكثرهم، وإنما المراد المبالغة في الحث على فعله وتركه»[10].
ويقول ابن عثيمين - عليه رحمة الله -: (ليس من الأدب مع الله ورسوله إذا أمــر الله بشيء أن تـقول: هو للوجوب أو للاستـحـبـاب، أو نهى الله عن شيء تقول: هو للكراهة أو التحريم.
وهكذا الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ هل كـان الصحابة يقولون هذا؟ هل يقولون إذا أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أنت عازم؟
ولكن عند وقوع المخالفة حينئذ ينظر الإنسان هل الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ هل النهي للكراهة أو للتحريم؟ وهذه مسألة مهمة.
تمام التعبد أنك إذا سمعت الله يأمرك تقول: سمعنا وأطعنا، ما تقول: هذا أمـر وجوب أو استحباب)[11].
كم يغفل بعض المربِّين عن التربية على كثيرٍ من شُعب الإيمان؛ كإماطة الأذى عن الطريق، وردِّ السلام، وتشميت العاطس، ودلالة الأعمى، والإفراغ في دلو المستسقي...إلخ، وهو الشيء الذي لم يُغْفِله النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل كان يربي عليه أصحابه؛ فعن أبي جري الهجيمي - رضي الله عنه - قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله! إنَّا قوم من أهل البادية، فعلِّمنا شيئاً ينفعنا الله -- تبارك وتعالى -- به! قال: «لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً، ولو أن تُفرِغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك وتسبيل الإزار فإنه من الخيلاء، والخيلاء لا يحبها الله - عز وجل -، وإن امـرؤ سبَّك بما يعـلم فيك فلا تسبَّه بما تعلم فيه؛ فإن أجره لك ووباله على من قاله»[12].
إن التربية على صغار الأمور حصن حصين من تضييع كبارها؛ فالمحافظة على السنن القبلية للصلاة سبيل للمحافظة على الصلاة المكتوبة، وإماطة الأذى عن الطريق مانع من الاعتداء على الناس وداعٍ إلى الإحسان إليهم؛ بل هو أول خطوة في ذلك، والصدقة النافلة تربية للنفس وتطهير لها عن البخل والطمع؛ وهي مع ذلك استعـداد مبـكر لإخراج الزكاة بطيب نفس، ولعل هذا ما أشار إليه ابن المبارك - رحمه الله - بقوله: (من تهاون بالأدب عُوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عُوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عُوقب بحرمان المعرفة)[13].
ثم التربية على صغار الأمور اتصال مستمر للتربية في ضمير المتربِّي تنديه بالإيمان، وتجنِّبه الغفلة واستحواذ الشيطان، وتبعد عنه قسوة القلب لطول الأمد: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 61].
ثم التربية على صغار الأمور والدعوة إليها تؤثر في صلاح الناس وتزيد من رصيد الخيرية فيهم؛ حتى وإن لم نشعر بذلك، فحين نلتزم في تربيتنا صغار الآداب والفضائل فإنها تبني في الناس صورة للخير يزداد حبهم لها، وتفعل في نفوسهم فعلها: (فإن الكلمة الصغيرة، والفعلة الهامشية لهما تأثير ترسُّبي ثقافي وأخلاقـي ما يفتأ يكثر، حتى يزداد الراسب الإسلامي تدريجياً، فيكون وعي الناس آنذاك لدقائق الفكرة أوفر)[14].
[