يشكل الفرد المسلم هدفًا رئيسًا وأساسيًّا لعملية التربية الإسلامية، التي تسعى من خلال أهدافها الكبرى ووسائلها المرحلية إلى تخريج الفرد الصالح أو المواطن الصالح، الذي يضطلع بأعباء الخلافة في الأرض، ويقوم بتعميرها وفق المنهج الإلهي الرشيد القويم.
فالتربية الإسلامية تسعى إلى تخريج المواطن الصالح الذي لا يلتزم بالصلاح داخل حدود ديار الإسلام فحسب، وإنما يلازمه ذلك الصلاح أينما يمم وجهه، وأينما حلت ركابه أو ارتحلت، فهو نموذج لحيوية التدين الذي لا يتوانى صاحبه في نشر الخير، وبثه في الآفاق، يتمثله ويدعو إليه.
وتنمية القدرات العقلية للمسلم هو أحد الأهداف المرحلية التي يسعى إليها منهج التربية الإسلامية كجزء أساس في تكوين الفرد المسلم، وفق المنهج التربوي الشامل المتكامل.
ومن أجل ذلك؛ كان الاهتمام التربوي بوضع قواعد للتفكير السليم تساعد على تنمية هذه القدرات العقلية.
ونحن اليوم في أشد الاحتياج إلى هذا المنهج التفكيرى لإصلاح الخلل الذي أصاب عقولنا، وأثَّر على تصوراتنا المرحلية والمستقبلية.
وقد استطاع الدكتور/ماجد عرسان الكيلاني في كتابه القيم "أهداف التربية الإسلامية"، أن يبرز لنا ملامح هذا المنهج الذي تشتد الحاجة إليه الآن للتخلص من عشوائية التفكير التي صاحبت الأجيال المتتابعة؛ نتيجة غياب المنهج الواضح الذي يرسم معالم التفكير الصحيح وملامحه وخطواته وأنماطه.
يتضمن منهج التفكير الذي تهدف إليه التربية الإسلامية ثلاثة مكونات رئيسية؛ هي: خطوات التفكير، وأشكال التفكير، وأنماط التفكير.
أولًا ـ خطوات التفكير:
تبدأ خطوات التفكير السليم بالإحساس بالظاهرة، ثم الانتقال إلى خطوة الوعي بهذه الظاهرة، وتحديد إطارها وميدانها، ثم الانتقال إلى خطوة التعرف على تفاصيل هذه المعلومات وتدبرها وتصنيفها، واكتشاف العلائق بينها، ثم الانتقال إلى خطوة اكتشاف الحكمة الكامنة وراء الظاهرة.
ومن الإنصاف أن نقول: إن خطوات التفكير العلمي التي أفرزتها التربية الحديثة تتطابق مع هذه الخطوات، بل إنها كانت مثيرًا قويًّا في لفت الانتباه إلى خطوات التفكير التي يشير إليها القرآن الكريم، والذي يجعل هذه الخطوات من التفكير صفة أساسية من صفات المؤمن، وينهى عن إتيان ما يناقضها أو يتعارض معها، ويتوعد بالمحاسبة على التفريط بمقتضياتها: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
بل إن القرآن ينتقد بشدة لاذعة الذين يبادرون عند السماع الأولي للمشكلة بإصدار الأحكام، دون السماح لها بالمرور بمنطقة السماع الداخلي، الذي يتآلف مع القدرات العقلية، ويتبادل معها التحليل والتأليف والاستنتاج.
ويصف القرآن هذا الأسلوب المتسرع بأنه تلقي للمعلومات الأولية باللسان، دون الصبر عليها حتى تمر بالأذن، وتصل إلى منطقة الوعي، ويتهدد القرآن فاعلي ذلك بالعقوبة؛ لما يترتب عليه من أخطاء في الحكم، وعدوان على الأبرياء: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 15-17].
وحين تتعقد المواقف والمشكلات ـ خاصة تلك التي تتعلق بأمور السلم أو أمور الحرب والأخطار ـ وتحتاج إلى درجات عالية من القدرات العقلية والخبرات العميقة ومناهج التفكير الحكيم؛ فإن القرآن يعيب على أولئك الذين يتناولونها بالإشاعات والتفسيرات العبثية، ويوجه إلى وجوب الرجوع إلى هيئة مشكلة من أهل الاختصاص الذين يعملون على تحليل هذه المواقف والمشكلات واستنباط أسبابها، ووضع الحلول المناسبة لمواجهتها:
{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83].
ومن الطبيعي أن العاملين في هذه الهيئة يحتاجون إلى إعداد متميز في مجال تربية القدرات العقلية، ومنهج التفكير الحكيم، لتكون عونًا لها على استنباط الأمور، ومن الطبيعي أن يتم انتقاؤهم من بين "أولي الألباب" المتفوقين، أصحاب القدرات العقلية العالية.
ثانيًا ـ أشكال التفكير:
وأما عن القسم الثاني لمنهج التفكير السليم وهو "أشكال التفكير" فهذه تشمل ما يلي:
(1) تدريب المتعلم على النقد الذاتي بدلًا من التفكير التبريري:
نعني بالنقد الذاتي: ذلك الأسلوب من التفكير الذي بمقتضاه يتحمل صاحبه المسئولية في جميع ما يصيبه من مشكلات ونوازل، أو ما ينتهي إليه من فشل، ولا يتدافع المسئولية، ويحاسب نفسه، ونعني بالتفكير التبريري: ذلك التفكير الذي يرى صاحبه الكمال في نفسه، وإذا أخطأ برأها من المسئولية، وراح يبحث لها عن مبررات خارجية، وينسب أسباب الأخطاء أو القصور والفشل إلى الآخرين.
والقرآن ـ في جميع توجيهاته ـ يقرر النقد الذاتي كقاعدة أساسية في جميع أشكال القصور والأخطاء الفردية أو الاجتماعية، ومن توجيهاته في هذا المجال قوله تعالى:
{مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32].
وفي قصة آدم وإبليس توجيهات واضحة لممارسة النقد الذاتي، وإدانة للتفكير التبريري، وإلقاء المسئولية على الآخرين، فمع أن أحداث القصة تذكر بصراحة دور إبليس في إغواء آدم وزوجه، إلا أنهما حمَّلا نفسيهما مسئولية المعصية التي حدثت، ولم ينسبا ذلك إلى الشيطان الذي أغواهما بذلك وحسنه لهما، وفي ذلك توجيه لذرية آدم وحواء، ليتخذوا من النقد الذاتي منهجًا في تقويم الآثار السلبية التي تنتج عن الممارسات الخاطئة، {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 22-23].
وتحميل الآخرين مسئولية أخطائنا هو منهج تفكير إبليسي، رائده إبليس نفسه، حين نسب الإغواء إلى الله ـ مع أن شيئًا من ذلك لم يحدث ـ وإنما كان سبب معصية إبليس ما اتصف به من حسد لآدم، واعتزاز بالأصل، وتفاخر في المنشأ.
والواقع أن التحليل الدقيق للأخطاء التي تقع أو المصائب التي تنزل، يوضح أن هذه الأخطاء والمصائب_غالبًا ما تكون_ مسئولية من تنزل به؛ لأن المصيبة هي وليد يتمخض عن تزاوج قوة مع ضعف، كما يولد الطفل من تزاوج ذكر مع أنثى، ولا يمكن بحال أن تولد مصيبة من التقاء قوة بقوة.
فالمصائب التي تنزل سببها تزاوج ضعف من نزلت به مع قوة من تسبب بها، ولو أن من نزلت به المصيبة كان مُبرأً من الضعف؛ لتصدت قوتُه لقوة السبب وأبطلت فاعليتها، ولذلك يحاسب الله الضعفاء والمستضعفين كما يحاسب الأقوياء المعتدين، ويعتبر كلًّا منهما ظالمًا: هذا ظالم لنفسه؛ إذ لم يسلحها بالقوة ويستعمل طاقاتها وإمكانياتها لدفع العدوان الذي داهمها، وذلك ظالم للناس إذ استعمل قوته للعدوان ونصرة الباطل بدلًا من استعمالها في نصرة الحق.
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97].
وفي المقابل، يمدح الله الأقوياء الذين إذا نزل بهم العدوان والبغي؛ قابلوه بالقوة ودفعوه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39].
وبالإجمال، فإن النقد الذاتي يتخذ في القرآن الكريم والسنة الشريفة شكل المبادئ الثابتة، والموازين الدائمة، التي توجه الإنسان لأن يتحرى دوره هو نفسه في كل ما يصيبه في أي زمان أو مكان، ولا يبحث عن مبررات من خارجه.
(
فالتربية الإسلامية تسعى إلى تخريج المواطن الصالح الذي لا يلتزم بالصلاح داخل حدود ديار الإسلام فحسب، وإنما يلازمه ذلك الصلاح أينما يمم وجهه، وأينما حلت ركابه أو ارتحلت، فهو نموذج لحيوية التدين الذي لا يتوانى صاحبه في نشر الخير، وبثه في الآفاق، يتمثله ويدعو إليه.
وتنمية القدرات العقلية للمسلم هو أحد الأهداف المرحلية التي يسعى إليها منهج التربية الإسلامية كجزء أساس في تكوين الفرد المسلم، وفق المنهج التربوي الشامل المتكامل.
ومن أجل ذلك؛ كان الاهتمام التربوي بوضع قواعد للتفكير السليم تساعد على تنمية هذه القدرات العقلية.
ونحن اليوم في أشد الاحتياج إلى هذا المنهج التفكيرى لإصلاح الخلل الذي أصاب عقولنا، وأثَّر على تصوراتنا المرحلية والمستقبلية.
وقد استطاع الدكتور/ماجد عرسان الكيلاني في كتابه القيم "أهداف التربية الإسلامية"، أن يبرز لنا ملامح هذا المنهج الذي تشتد الحاجة إليه الآن للتخلص من عشوائية التفكير التي صاحبت الأجيال المتتابعة؛ نتيجة غياب المنهج الواضح الذي يرسم معالم التفكير الصحيح وملامحه وخطواته وأنماطه.
يتضمن منهج التفكير الذي تهدف إليه التربية الإسلامية ثلاثة مكونات رئيسية؛ هي: خطوات التفكير، وأشكال التفكير، وأنماط التفكير.
أولًا ـ خطوات التفكير:
تبدأ خطوات التفكير السليم بالإحساس بالظاهرة، ثم الانتقال إلى خطوة الوعي بهذه الظاهرة، وتحديد إطارها وميدانها، ثم الانتقال إلى خطوة التعرف على تفاصيل هذه المعلومات وتدبرها وتصنيفها، واكتشاف العلائق بينها، ثم الانتقال إلى خطوة اكتشاف الحكمة الكامنة وراء الظاهرة.
ومن الإنصاف أن نقول: إن خطوات التفكير العلمي التي أفرزتها التربية الحديثة تتطابق مع هذه الخطوات، بل إنها كانت مثيرًا قويًّا في لفت الانتباه إلى خطوات التفكير التي يشير إليها القرآن الكريم، والذي يجعل هذه الخطوات من التفكير صفة أساسية من صفات المؤمن، وينهى عن إتيان ما يناقضها أو يتعارض معها، ويتوعد بالمحاسبة على التفريط بمقتضياتها: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
بل إن القرآن ينتقد بشدة لاذعة الذين يبادرون عند السماع الأولي للمشكلة بإصدار الأحكام، دون السماح لها بالمرور بمنطقة السماع الداخلي، الذي يتآلف مع القدرات العقلية، ويتبادل معها التحليل والتأليف والاستنتاج.
ويصف القرآن هذا الأسلوب المتسرع بأنه تلقي للمعلومات الأولية باللسان، دون الصبر عليها حتى تمر بالأذن، وتصل إلى منطقة الوعي، ويتهدد القرآن فاعلي ذلك بالعقوبة؛ لما يترتب عليه من أخطاء في الحكم، وعدوان على الأبرياء: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 15-17].
وحين تتعقد المواقف والمشكلات ـ خاصة تلك التي تتعلق بأمور السلم أو أمور الحرب والأخطار ـ وتحتاج إلى درجات عالية من القدرات العقلية والخبرات العميقة ومناهج التفكير الحكيم؛ فإن القرآن يعيب على أولئك الذين يتناولونها بالإشاعات والتفسيرات العبثية، ويوجه إلى وجوب الرجوع إلى هيئة مشكلة من أهل الاختصاص الذين يعملون على تحليل هذه المواقف والمشكلات واستنباط أسبابها، ووضع الحلول المناسبة لمواجهتها:
{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83].
ومن الطبيعي أن العاملين في هذه الهيئة يحتاجون إلى إعداد متميز في مجال تربية القدرات العقلية، ومنهج التفكير الحكيم، لتكون عونًا لها على استنباط الأمور، ومن الطبيعي أن يتم انتقاؤهم من بين "أولي الألباب" المتفوقين، أصحاب القدرات العقلية العالية.
ثانيًا ـ أشكال التفكير:
وأما عن القسم الثاني لمنهج التفكير السليم وهو "أشكال التفكير" فهذه تشمل ما يلي:
(1) تدريب المتعلم على النقد الذاتي بدلًا من التفكير التبريري:
نعني بالنقد الذاتي: ذلك الأسلوب من التفكير الذي بمقتضاه يتحمل صاحبه المسئولية في جميع ما يصيبه من مشكلات ونوازل، أو ما ينتهي إليه من فشل، ولا يتدافع المسئولية، ويحاسب نفسه، ونعني بالتفكير التبريري: ذلك التفكير الذي يرى صاحبه الكمال في نفسه، وإذا أخطأ برأها من المسئولية، وراح يبحث لها عن مبررات خارجية، وينسب أسباب الأخطاء أو القصور والفشل إلى الآخرين.
والقرآن ـ في جميع توجيهاته ـ يقرر النقد الذاتي كقاعدة أساسية في جميع أشكال القصور والأخطاء الفردية أو الاجتماعية، ومن توجيهاته في هذا المجال قوله تعالى:
{مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32].
وفي قصة آدم وإبليس توجيهات واضحة لممارسة النقد الذاتي، وإدانة للتفكير التبريري، وإلقاء المسئولية على الآخرين، فمع أن أحداث القصة تذكر بصراحة دور إبليس في إغواء آدم وزوجه، إلا أنهما حمَّلا نفسيهما مسئولية المعصية التي حدثت، ولم ينسبا ذلك إلى الشيطان الذي أغواهما بذلك وحسنه لهما، وفي ذلك توجيه لذرية آدم وحواء، ليتخذوا من النقد الذاتي منهجًا في تقويم الآثار السلبية التي تنتج عن الممارسات الخاطئة، {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 22-23].
وتحميل الآخرين مسئولية أخطائنا هو منهج تفكير إبليسي، رائده إبليس نفسه، حين نسب الإغواء إلى الله ـ مع أن شيئًا من ذلك لم يحدث ـ وإنما كان سبب معصية إبليس ما اتصف به من حسد لآدم، واعتزاز بالأصل، وتفاخر في المنشأ.
والواقع أن التحليل الدقيق للأخطاء التي تقع أو المصائب التي تنزل، يوضح أن هذه الأخطاء والمصائب_غالبًا ما تكون_ مسئولية من تنزل به؛ لأن المصيبة هي وليد يتمخض عن تزاوج قوة مع ضعف، كما يولد الطفل من تزاوج ذكر مع أنثى، ولا يمكن بحال أن تولد مصيبة من التقاء قوة بقوة.
فالمصائب التي تنزل سببها تزاوج ضعف من نزلت به مع قوة من تسبب بها، ولو أن من نزلت به المصيبة كان مُبرأً من الضعف؛ لتصدت قوتُه لقوة السبب وأبطلت فاعليتها، ولذلك يحاسب الله الضعفاء والمستضعفين كما يحاسب الأقوياء المعتدين، ويعتبر كلًّا منهما ظالمًا: هذا ظالم لنفسه؛ إذ لم يسلحها بالقوة ويستعمل طاقاتها وإمكانياتها لدفع العدوان الذي داهمها، وذلك ظالم للناس إذ استعمل قوته للعدوان ونصرة الباطل بدلًا من استعمالها في نصرة الحق.
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97].
وفي المقابل، يمدح الله الأقوياء الذين إذا نزل بهم العدوان والبغي؛ قابلوه بالقوة ودفعوه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39].
وبالإجمال، فإن النقد الذاتي يتخذ في القرآن الكريم والسنة الشريفة شكل المبادئ الثابتة، والموازين الدائمة، التي توجه الإنسان لأن يتحرى دوره هو نفسه في كل ما يصيبه في أي زمان أو مكان، ولا يبحث عن مبررات من خارجه.
(