قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش)) [رواه أحمد، (18859)، وضعفه الألباني في الضعيفة، (878)].
هكذا بشَّر الرسول صلى الله عليه وسلم بفتح تلك المدينة، التي لم يكن أي عربي يحلم بأن تطأ قدمه إياها، وهكذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم الأمير الذي سوف يتم الله على يديه فتح هذه المدينة، وبالفعل صدق النبي صلى الله عليه وسلم في بشارته، فقد أتمَّ الله على المسلمين فتح القسطنطينية، وكان القائد المسلم "محمد الفاتح" فعلًا "نعم الأمير أميرها".
بدايةً، القسطنطينية التي ورد ذكرها في حديث النبي صلى الله عليه وسلم هي مدينة ذات حضارة، تقع في المدخل الشرقي لأوروبا، على خليج "الدردنيل"، وكانت بمثابة البوابة الشرقية للنفاد إلى أوروبا.
وقد تكررت محاولات المسلمين لفتح هذه المدينة؛ من أجل نيل شرف تحقيق نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم، فمنذ عهد "عثمان بن عفان" رضي الله عنه والمحاولات مستمرة لفتح تلك البلاد؛ لكنَّ الله تعالى لم يُتمَّ فتحَها لا على يد "عثمان" رضي الله عنه، ولا على يد الصحابي الجليل "معاوية بن أبي سفيان"، على مدار سبع سنوات كاملة، ذلك أنَّ بسالة جيش هذه المدينة في الدفاع عن أسوارها حالَ دون تحقيق هذا الحلم.
ومن بعد "معاوية" تسلم "سليمان بن عبد الملك" الراية، وبذل محاولات عدة لفتح هذه المدينة؛ إلا أنَّ استبسال أهلها وبُعد المسافة بين الجيش المسلم وقيادته في الشام، وقلة الإمدادات للجيش الإسلامي، مع تدفُّق الإمدادات على أهالي مدينة القسطنطينية؛ قد ساعدهم على الصمود في وجه الموجات المتكررة من هجمات المسلمين.
وفي العهد العثماني، تكررت المحاولات وكانت أكثر شراسةً وقوةً، وقاد هذه المحاولات السلطان "بايزيد" الأول و"مراد" الثاني؛ مما مهد الطريق أمام مَنْ بعدهم لإتمام فتح المدينة، على يد القائد "محمد الفاتح"، الذي إذا ما تتبعنا سيرته؛ نجد أن ما فيها من أحداث وعوامل قد أسهم في تشكيل شخصيته الفذَّة.
محمد الفاتح، السلطان العثماني السابع
يعد "محمد الفاتح" أو "محمد الثاني"، السلطان العثماني السابع في سلسلة آل عثمان، هو محمد بن مراد بك بن محمد بك بن بايزيد بن مراد بن أرخان بن عثمان، يُلقب بالفاتح وأبي الخيرات، حكم ما يقرب من ثلاثين عامًا، كانت خيرًا وعزة للمسلمين.
ولد "محمد الثاني"، في 26 من رجب سنة 833هـ، الموافق20 من إبريل 1429م، في مدينة "أدرنه" إحدى المدن التركية عريقة الحضارة، وهو ابن السلطان "مراد الثاني ابن السلطان محمد جلبي ابن السلطان بايزيد الأول"، أحد سلاطين الخلافة العثمانية، وقد نال الرعاية والاهتمام منذ الصغر؛ فأحضر له والده المربِّين والمعلِّمين، الذين أحسنوا تنشئته وتعليمه، فكانت هذه التربية متعددةَ الجوانب متزنةً في أركانها.
وهكذا نشأ السلطان "محمد الفاتح" بجوار والده وتحت رعايته؛ إذ اهتم بتنشئته وتربيته جسميًّا وعقليًّا ودينيًّا؛ ومرَّنه على ركوب الخيل والرمي بالقوس والضرب بالسيف، وفي الوقت نفسه أقام عليه معلِّمًا من خيرة أساتذة عصره، هو المُلاَّ "أحمد بن إسماعيل الكوراني"، الذي كان له الفضل ـ بعد الله عز وجل ـ في جعل السلطان "محمد" يختم القرآن الكريم وهو صغير السنِّ.
ومن العلماء الذين درس على أيديهم السلطان "محمد الفاتح" الشيخ "ابن التمجيد"، الذي كان تقيًّا وشاعرًا، يُحسن النظم بالعربية والفارسية، وكذلك الشيخ "خير الدين" والشيخ "سراج الدين الحلبي"، وكذلك دَرَس السلطان "محمد الفاتح" على يد معلمين آخرين في الرياضيات، والجغرافية، والفلك، والتاريخ، واللغات المختلفة، فأصبح مُجيدًا للغة العربية والفارسية واللاتينية والإغريقية، إضافةً إلى لغته التركية الأصلية.
وبالرغم من أن "محمد الفاتح" وُلِد في قصر السلطان، وبيئة القصور ليست بالبيئة التي تساعد على تكوين شخصية متزنة، إلا أن الفاتح لم يتأثر بتلك العوامل، وساعده على ذلك والده الذي أحسن تربيته، وعهد في ذلك إلى الثِّقات من العلماء، وإلى من اشتهروا في ذلك الوقت بالصلاح والتقوى.
ولقد تأثر "الفاتح" بمعلميه تأثرًا شديدًا، وكان لتنوع المصادر التي تلقَّى منها تعليمه وتربيته أن جعلت من شخصيته شخصيةً نموذجيةً، فكان شديد الذكاء، ممتلئًا بالثقة بالنفس، يقظًا ولمَّاحًا، وبسيطًا في أموره واستقباله للحياة، كما كان يترفَّع عن سفاسف الأمور، مهتمًا بمعاليها التي قلما تجد الشباب في سنِّه يهتمون بها، وكان يقضي أغلب وقته في القراءة أو التمارين.
تولى حكم الدولة العثمانية بعد وفاة والده في 16 محرم عام 855هـ، الموافق 18 فبراير عام 1451م، وكان عمره آنذاك 22 سنة، ولقد امتاز السلطان محمد الفاتح بشخصية فذة، جمعت بين القوة والعدل، كما أنه فاق أقرانه منذ حداثته في كثير من العلوم، التي كان يتلقاها في مدرسة الأمراء، وخاصة معرفته لكثير من لغات عصره، وميله الشديد لدراسة كتب التاريخ، مما ساعده فيما بعد على إبراز شخصيته في الإدارة وميادين القتال؛ حتى أنه اشُتهر أخيرًا في التاريخ بلقب "محمد الفاتح"؛ لفتحه القسطنطينية.
وقد انتهج المنهج الذي سار عليه والده وأجداده في الفتوحات، ولقد برز بعد توليه السلطة في الدولة العثمانية بقيامه بإعادة تنظيم إدارات الدولة المختلفة، واهتم كثيرًا بالأمور المالية، فعمل على تحديد موارد الدولة وطرق الصرف منها بشكل يمنع الإسراف والبذخ أو الترف.
وكذلك ركز على تطوير كتائب الجيش وأعاد تنظيمها، ووضع سجلات خاصة بالجند، وزاد من مرتباتهم، وأمدهم بأحدث الأسلحة المتوفرة في ذلك العصر، وعمل على تطوير إدارة الأقاليم، وأقر بعض الولاة السابقين في أقاليمهم وعزل من ظهر منه تقصير أو إهمال، وطور البلاط السلطاني، وأمدهم بالخبرات الإدارية والعسكرية الجيدة؛ مما ساهم في استقرار الدولة والتقدم إلى الإمام.
وبعد أن قطع أشواطًا مثمرة في الإصلاح الداخلي؛ تطلع إلى المناطق المسيحية في أوروبا لفتحها ونشر الإسلام فيها، ولقد ساعدته عوامل عدة في تحقيق أهدافه، منها الضعف الذي وصلت إليه الإمبراطورية البيزنطية بسبب المنازعات مع الدول الأوروبية الأخرى، وكذلك بسبب الخلافات الداخلية التي عمَّت جميع مناطقها ومدنها، ولم يكتف السلطان محمد بذلك، بل إنه عمل بجد من أجل أن يتوج انتصاراته بفتح القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، والمعقل الاستراتيجي الهام للتحركات الصليبية ضد العالم الإسلامي لفترة طويلة من الزمن، والتي طالما اعتزت بها الإمبراطورية البيزنطية بصورة خاصة والمسيحية بصورة عامة، وجعلها عاصمة للدولة العثمانية، وتحقيق ما عجز عن تحقيقه أسلافه من قادة الجيوش الإسلامية.
فتح القسطنطينية
تعد القسطنطينية من أهم المدن العالمية، وقد أُسست في عام 330م، على يد الإمبراطور البيزنطي "قسطنطين الأول"، وقد كان لها موقع عالمي فريد؛ حتى قيل عنها: لو كانت الدنيا مملكة واحدة؛ لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها، ومنذ تأسيسها فقد اتخذها البيزنطيون عاصمة لهم، وهي من أكبر المدن في العالم وأهمها.
وعندما دخل المسلمون في جهاد مع الدولة البيزنطية كان لهذه المدينة مكانتها الخاصة من ذلك الصراع؛ ولذلك فقد رُوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر أصحابه بفتحها في عدة مواقف، من ذلك: ما حدث أثناء غزوة الخندق، ولهذا فقد تنافس خلفاء المسلمين وقادتهم على فتحها عبر العصور المختلفة؛ طمعًا في أن يتحقق فيهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش)) [رواه أحمد، (18859)، وضعفه الألباني في الضعيفة، (878)].
يُعد فتح القسطنطينية من الملاحم الإسلامية العظيمة التي تحاكَى بها التاريخ؛ ذلك أن هذه الملحمة العظيمة شهدت الكثير من الوقائع والمراحل المختلفة، التي تدل على عظم هذا الفتح، فهذه المدينة كان من الصعوبة اقتحامها؛ نظرًا لموقعها الحصين، إذ كانت محاطةً بالمياه من أغلب جوانبها، كما أن السور الذي تحصَّن به حكامُ المدينة كان منيعًا بدرجة كبيرة.
ولقد كانت الإصلاحات المختلفة التي قام بها "محمد الفاتح"، نقطة الانطلاق لفتح القسطنطينية، هذا الفتح الذي يُعدُّ الحلم الأكبر الذي تمناه، وبذلك أصبحت الدولة قوية وقادرة على مواجهة خصومها وأعدائها من موقف القوة، فبدأ "محمد الفاتح" حصار المدينة في 13 من رمضان 805هـ، التي كانت تُمد بالمؤن والعتاد من جيرانها من نصارى أوروبا ومن الكنيسة البابوية؛ لكن الجيشَ المسلم لم يقنط أو ييأس من فتحها، فثبت الرجال على الحق وقوِيَ عزمهم على اقتحام أسوار المدينة المنيعة.
نوَّع "محمد الفاتح" من خططه للتعجيل بالفتح ولتذليل الصعوبات التي تواجه جيشه، فاستخدم المدافع كبيرة الحجم التي استعان في تصنيعها بمهندسين من خارج دولته، كما تم نقل سفن الجيش المسلم برًّا للالتفاف حول المتاريس والسلاسل التي وضعها البيزنطيون في مدخل ميناء القرن الذهبي؛ لكي تعوق تقدم السفن المسلمة.
ثم جاء الهجوم الأخير، بعد أن ضعفت المدينة من جراء القصف المتواصل من مدافع جيش المسلمين، وبسالة جنود "محمد الفاتح"، الذي أعدَّ لهذه المعركة الفاصلة عدة عظيمة، ونظم جيشه تنظيمًا دقيقًا، وفي يوم 20 من جمادى الأولى 857 هـ، الموافق 29 من مايو 1453م، دخل جيشه مدينة القسطنطينية منتصرًا، فأنار الإسلام هذه المدينة بعد أن كانت متخبطة في ظلام الشرك والظلم، وبعد الفتح تم بناء مسجد بالمدينة، وسُمِّي على اسم الصحابي الجليل "أبي أيوب الأنصاري"، الذي كان من الأوائل الذين كانت لهم شرف المحاولة الأولى لفتح هذه المدينة؛ إلا أنه توفِّي قبل أن تصل جيوش المسلمين إليها، وأوصى بدفنه في أقرب مكان يصل إليه الجيش للمدينة، كما تمَّ تغيير اسم المدينة، وأصبحت "إسلام بول"؛ أي مدينة الإسلام، واتخذها "محمد الفاتح" عاصمة لدولته، وكفَل لأهلها حرية العبادة وممارسة شعائرهم وعاداتهم، دون قيد أو شرط.
ولقد أحسن محمد الفاتح معاملة النصارى، وقد أعطى السلطان للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية، واختيار رؤسائهم الدينيين، الذين لهم حق الحكم في القضايا المدنية، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى، ولكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع.
لقد تأثر الغرب النصراني بنبأ هذا الفتح، وانتاب النصارى شعور بالفزع والألم والخزي، وتجسَّم لهم خطر جيوش الإسلام القادمة من "إستانبول"، وبذل الشعراء والأدباء ما في وسعهم لتأجيج نار الحقد، وبراكين الغضب في نفوس النصارى ضد المسلمين.
هكذا بشَّر الرسول صلى الله عليه وسلم بفتح تلك المدينة، التي لم يكن أي عربي يحلم بأن تطأ قدمه إياها، وهكذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم الأمير الذي سوف يتم الله على يديه فتح هذه المدينة، وبالفعل صدق النبي صلى الله عليه وسلم في بشارته، فقد أتمَّ الله على المسلمين فتح القسطنطينية، وكان القائد المسلم "محمد الفاتح" فعلًا "نعم الأمير أميرها".
بدايةً، القسطنطينية التي ورد ذكرها في حديث النبي صلى الله عليه وسلم هي مدينة ذات حضارة، تقع في المدخل الشرقي لأوروبا، على خليج "الدردنيل"، وكانت بمثابة البوابة الشرقية للنفاد إلى أوروبا.
وقد تكررت محاولات المسلمين لفتح هذه المدينة؛ من أجل نيل شرف تحقيق نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم، فمنذ عهد "عثمان بن عفان" رضي الله عنه والمحاولات مستمرة لفتح تلك البلاد؛ لكنَّ الله تعالى لم يُتمَّ فتحَها لا على يد "عثمان" رضي الله عنه، ولا على يد الصحابي الجليل "معاوية بن أبي سفيان"، على مدار سبع سنوات كاملة، ذلك أنَّ بسالة جيش هذه المدينة في الدفاع عن أسوارها حالَ دون تحقيق هذا الحلم.
ومن بعد "معاوية" تسلم "سليمان بن عبد الملك" الراية، وبذل محاولات عدة لفتح هذه المدينة؛ إلا أنَّ استبسال أهلها وبُعد المسافة بين الجيش المسلم وقيادته في الشام، وقلة الإمدادات للجيش الإسلامي، مع تدفُّق الإمدادات على أهالي مدينة القسطنطينية؛ قد ساعدهم على الصمود في وجه الموجات المتكررة من هجمات المسلمين.
وفي العهد العثماني، تكررت المحاولات وكانت أكثر شراسةً وقوةً، وقاد هذه المحاولات السلطان "بايزيد" الأول و"مراد" الثاني؛ مما مهد الطريق أمام مَنْ بعدهم لإتمام فتح المدينة، على يد القائد "محمد الفاتح"، الذي إذا ما تتبعنا سيرته؛ نجد أن ما فيها من أحداث وعوامل قد أسهم في تشكيل شخصيته الفذَّة.
محمد الفاتح، السلطان العثماني السابع
يعد "محمد الفاتح" أو "محمد الثاني"، السلطان العثماني السابع في سلسلة آل عثمان، هو محمد بن مراد بك بن محمد بك بن بايزيد بن مراد بن أرخان بن عثمان، يُلقب بالفاتح وأبي الخيرات، حكم ما يقرب من ثلاثين عامًا، كانت خيرًا وعزة للمسلمين.
ولد "محمد الثاني"، في 26 من رجب سنة 833هـ، الموافق20 من إبريل 1429م، في مدينة "أدرنه" إحدى المدن التركية عريقة الحضارة، وهو ابن السلطان "مراد الثاني ابن السلطان محمد جلبي ابن السلطان بايزيد الأول"، أحد سلاطين الخلافة العثمانية، وقد نال الرعاية والاهتمام منذ الصغر؛ فأحضر له والده المربِّين والمعلِّمين، الذين أحسنوا تنشئته وتعليمه، فكانت هذه التربية متعددةَ الجوانب متزنةً في أركانها.
وهكذا نشأ السلطان "محمد الفاتح" بجوار والده وتحت رعايته؛ إذ اهتم بتنشئته وتربيته جسميًّا وعقليًّا ودينيًّا؛ ومرَّنه على ركوب الخيل والرمي بالقوس والضرب بالسيف، وفي الوقت نفسه أقام عليه معلِّمًا من خيرة أساتذة عصره، هو المُلاَّ "أحمد بن إسماعيل الكوراني"، الذي كان له الفضل ـ بعد الله عز وجل ـ في جعل السلطان "محمد" يختم القرآن الكريم وهو صغير السنِّ.
ومن العلماء الذين درس على أيديهم السلطان "محمد الفاتح" الشيخ "ابن التمجيد"، الذي كان تقيًّا وشاعرًا، يُحسن النظم بالعربية والفارسية، وكذلك الشيخ "خير الدين" والشيخ "سراج الدين الحلبي"، وكذلك دَرَس السلطان "محمد الفاتح" على يد معلمين آخرين في الرياضيات، والجغرافية، والفلك، والتاريخ، واللغات المختلفة، فأصبح مُجيدًا للغة العربية والفارسية واللاتينية والإغريقية، إضافةً إلى لغته التركية الأصلية.
وبالرغم من أن "محمد الفاتح" وُلِد في قصر السلطان، وبيئة القصور ليست بالبيئة التي تساعد على تكوين شخصية متزنة، إلا أن الفاتح لم يتأثر بتلك العوامل، وساعده على ذلك والده الذي أحسن تربيته، وعهد في ذلك إلى الثِّقات من العلماء، وإلى من اشتهروا في ذلك الوقت بالصلاح والتقوى.
ولقد تأثر "الفاتح" بمعلميه تأثرًا شديدًا، وكان لتنوع المصادر التي تلقَّى منها تعليمه وتربيته أن جعلت من شخصيته شخصيةً نموذجيةً، فكان شديد الذكاء، ممتلئًا بالثقة بالنفس، يقظًا ولمَّاحًا، وبسيطًا في أموره واستقباله للحياة، كما كان يترفَّع عن سفاسف الأمور، مهتمًا بمعاليها التي قلما تجد الشباب في سنِّه يهتمون بها، وكان يقضي أغلب وقته في القراءة أو التمارين.
تولى حكم الدولة العثمانية بعد وفاة والده في 16 محرم عام 855هـ، الموافق 18 فبراير عام 1451م، وكان عمره آنذاك 22 سنة، ولقد امتاز السلطان محمد الفاتح بشخصية فذة، جمعت بين القوة والعدل، كما أنه فاق أقرانه منذ حداثته في كثير من العلوم، التي كان يتلقاها في مدرسة الأمراء، وخاصة معرفته لكثير من لغات عصره، وميله الشديد لدراسة كتب التاريخ، مما ساعده فيما بعد على إبراز شخصيته في الإدارة وميادين القتال؛ حتى أنه اشُتهر أخيرًا في التاريخ بلقب "محمد الفاتح"؛ لفتحه القسطنطينية.
وقد انتهج المنهج الذي سار عليه والده وأجداده في الفتوحات، ولقد برز بعد توليه السلطة في الدولة العثمانية بقيامه بإعادة تنظيم إدارات الدولة المختلفة، واهتم كثيرًا بالأمور المالية، فعمل على تحديد موارد الدولة وطرق الصرف منها بشكل يمنع الإسراف والبذخ أو الترف.
وكذلك ركز على تطوير كتائب الجيش وأعاد تنظيمها، ووضع سجلات خاصة بالجند، وزاد من مرتباتهم، وأمدهم بأحدث الأسلحة المتوفرة في ذلك العصر، وعمل على تطوير إدارة الأقاليم، وأقر بعض الولاة السابقين في أقاليمهم وعزل من ظهر منه تقصير أو إهمال، وطور البلاط السلطاني، وأمدهم بالخبرات الإدارية والعسكرية الجيدة؛ مما ساهم في استقرار الدولة والتقدم إلى الإمام.
وبعد أن قطع أشواطًا مثمرة في الإصلاح الداخلي؛ تطلع إلى المناطق المسيحية في أوروبا لفتحها ونشر الإسلام فيها، ولقد ساعدته عوامل عدة في تحقيق أهدافه، منها الضعف الذي وصلت إليه الإمبراطورية البيزنطية بسبب المنازعات مع الدول الأوروبية الأخرى، وكذلك بسبب الخلافات الداخلية التي عمَّت جميع مناطقها ومدنها، ولم يكتف السلطان محمد بذلك، بل إنه عمل بجد من أجل أن يتوج انتصاراته بفتح القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، والمعقل الاستراتيجي الهام للتحركات الصليبية ضد العالم الإسلامي لفترة طويلة من الزمن، والتي طالما اعتزت بها الإمبراطورية البيزنطية بصورة خاصة والمسيحية بصورة عامة، وجعلها عاصمة للدولة العثمانية، وتحقيق ما عجز عن تحقيقه أسلافه من قادة الجيوش الإسلامية.
فتح القسطنطينية
تعد القسطنطينية من أهم المدن العالمية، وقد أُسست في عام 330م، على يد الإمبراطور البيزنطي "قسطنطين الأول"، وقد كان لها موقع عالمي فريد؛ حتى قيل عنها: لو كانت الدنيا مملكة واحدة؛ لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها، ومنذ تأسيسها فقد اتخذها البيزنطيون عاصمة لهم، وهي من أكبر المدن في العالم وأهمها.
وعندما دخل المسلمون في جهاد مع الدولة البيزنطية كان لهذه المدينة مكانتها الخاصة من ذلك الصراع؛ ولذلك فقد رُوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر أصحابه بفتحها في عدة مواقف، من ذلك: ما حدث أثناء غزوة الخندق، ولهذا فقد تنافس خلفاء المسلمين وقادتهم على فتحها عبر العصور المختلفة؛ طمعًا في أن يتحقق فيهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش)) [رواه أحمد، (18859)، وضعفه الألباني في الضعيفة، (878)].
يُعد فتح القسطنطينية من الملاحم الإسلامية العظيمة التي تحاكَى بها التاريخ؛ ذلك أن هذه الملحمة العظيمة شهدت الكثير من الوقائع والمراحل المختلفة، التي تدل على عظم هذا الفتح، فهذه المدينة كان من الصعوبة اقتحامها؛ نظرًا لموقعها الحصين، إذ كانت محاطةً بالمياه من أغلب جوانبها، كما أن السور الذي تحصَّن به حكامُ المدينة كان منيعًا بدرجة كبيرة.
ولقد كانت الإصلاحات المختلفة التي قام بها "محمد الفاتح"، نقطة الانطلاق لفتح القسطنطينية، هذا الفتح الذي يُعدُّ الحلم الأكبر الذي تمناه، وبذلك أصبحت الدولة قوية وقادرة على مواجهة خصومها وأعدائها من موقف القوة، فبدأ "محمد الفاتح" حصار المدينة في 13 من رمضان 805هـ، التي كانت تُمد بالمؤن والعتاد من جيرانها من نصارى أوروبا ومن الكنيسة البابوية؛ لكن الجيشَ المسلم لم يقنط أو ييأس من فتحها، فثبت الرجال على الحق وقوِيَ عزمهم على اقتحام أسوار المدينة المنيعة.
نوَّع "محمد الفاتح" من خططه للتعجيل بالفتح ولتذليل الصعوبات التي تواجه جيشه، فاستخدم المدافع كبيرة الحجم التي استعان في تصنيعها بمهندسين من خارج دولته، كما تم نقل سفن الجيش المسلم برًّا للالتفاف حول المتاريس والسلاسل التي وضعها البيزنطيون في مدخل ميناء القرن الذهبي؛ لكي تعوق تقدم السفن المسلمة.
ثم جاء الهجوم الأخير، بعد أن ضعفت المدينة من جراء القصف المتواصل من مدافع جيش المسلمين، وبسالة جنود "محمد الفاتح"، الذي أعدَّ لهذه المعركة الفاصلة عدة عظيمة، ونظم جيشه تنظيمًا دقيقًا، وفي يوم 20 من جمادى الأولى 857 هـ، الموافق 29 من مايو 1453م، دخل جيشه مدينة القسطنطينية منتصرًا، فأنار الإسلام هذه المدينة بعد أن كانت متخبطة في ظلام الشرك والظلم، وبعد الفتح تم بناء مسجد بالمدينة، وسُمِّي على اسم الصحابي الجليل "أبي أيوب الأنصاري"، الذي كان من الأوائل الذين كانت لهم شرف المحاولة الأولى لفتح هذه المدينة؛ إلا أنه توفِّي قبل أن تصل جيوش المسلمين إليها، وأوصى بدفنه في أقرب مكان يصل إليه الجيش للمدينة، كما تمَّ تغيير اسم المدينة، وأصبحت "إسلام بول"؛ أي مدينة الإسلام، واتخذها "محمد الفاتح" عاصمة لدولته، وكفَل لأهلها حرية العبادة وممارسة شعائرهم وعاداتهم، دون قيد أو شرط.
ولقد أحسن محمد الفاتح معاملة النصارى، وقد أعطى السلطان للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية، واختيار رؤسائهم الدينيين، الذين لهم حق الحكم في القضايا المدنية، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى، ولكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع.
لقد تأثر الغرب النصراني بنبأ هذا الفتح، وانتاب النصارى شعور بالفزع والألم والخزي، وتجسَّم لهم خطر جيوش الإسلام القادمة من "إستانبول"، وبذل الشعراء والأدباء ما في وسعهم لتأجيج نار الحقد، وبراكين الغضب في نفوس النصارى ضد المسلمين.