أنتحار بقلم : ناصر أبو العزم
فرش الليل عباءته السوداء .. نشر عتمته الداكنة .. أعاصير الشتاء الرعدية تصفع زجاج النافذة الوحيدة للحجرة اليتيمة المطلة علي الحارة الضيقة التي يقطنها الأستاذ صابر . حاول أن ينام تلك الليلة ولكن خاطرا مروعا نزع النوم من مقلتيه المغرغرتين..قوة طاغية أستبدت به ..ارتجفت لها أوصاله واصطكت أسنانه .. تقاطرت حبات العرق من جبينه العريض مصحوبة برعشة ضارية سرت في جسده النحيل ..طرح الفراش عن ساقيه .. قفز من فوق سريره المتآكل .. تثاقلت خطاه صوب النافذة..من خلف زجاجها المشروخ أطل بوجهه علي الحارة الضيقة المعتمة وكأنها قبو مظلم تفوح منه رائحة الجثث العفنة.. شعر بالارتعاد..أحكم غلق النافذة .. اصطدمت قدمه بوابور الشرائط المتهرئ أنكفأ علي الحصيرة البلاستيك الكثيرة الثقوب..بجوار السرير..أخذته التفاته إلي أسفل السرير ..شيء ما يبرق في انعكاس بقايا الضوء الشاحب الذي ينبعث من المصباح الوحيد المتدلي من سقف الحجرة الواطئة..مد إليه يدا مرتعشة..التقطه..شعر بغصة في حلقه..قشعريرة تسري في جسده..قذفه بقوة ..عاد الخاطر الملعون يطارده من جديد وكأنه مسخ مخيف يولول في ظلام الليل.. رفع رأسه ناحية الحائط ذو اللون الداكن ..مازالت العبارة التي خطتها يد صديقه الوحيد ماهر بارزة وواضحة رغم تآكل الحائط"إن الصديق علي الصديق مصدق" أخترقت الحروف أحشائه التي تورمت فجأة ودغدغت زفرة ألم انطلقت من صدره الكسير صمت الحجرة..رفع يديه حتى التصقت كفاه بوجهه..أحس سخونة تغلي في رأسه المتفجرة.. دمعات واهنه تلهب
بشرته السمراء..شهق .. خر ساجدا يبكي بشدة ومازالت يداه ملتصقتان بالوجه..ثمة تمتمات غامضة تنطلق من حنجرته الناتئة في عنقه النحيل..تجلد..نظر أسفل السرير..وجد النصل مازال يلمع ويغريه..زحف تحت السرير..تردد تراجع..تقدم..التقطه.سحب جسده بسرعة..اعتدل..شهره في مواجهة ضوء المصباح الخافت..تحسسه ..
مضغ مرارة شديدة تنشر لسانه المتشقق...برقت عيناه فجأة
أنتفض .. أسرع الي الصندوق الخشبي الذي أكل السوس عظامه..فتح باب
الذي له مفصلتان أحداهما مكسورة..ألقاه بقوة علي الجدار ..كان لارتطامه دوي هائل التهم جزء من وجوم المكان..عبثت يده اليمني بالملابس..ويده اليسرى مازالت قابضة علي النصل..بدأ الخاطر العنيد يناطح رأسه حتى أدمي تفكيره ..لابد أن يثأر لصديقه ماهر .. أخيه الذي لم تلده أمه ..تسرب هذا الخاطر إلي أوردته وشرايينه التي نفرت وانتفخت .. وضع النصل علي حافة المنضدة المركونة بجانب الصندوق .. تحسس أسفل الصندوق .. بعض الصور له مع صديقه ماهر وصديقهما الثالث .. كانت كخنجر مسنون غرز وبلا هوادة في قلبه دون أن تنزل قطرة دم واحدة .. برك علي ركبتيه جاثيا يجتر الكم الهائل من اللذة والانتشاء مع كل صورة فيستعيد تاريخها وعبقها .. داعبته نسمة طرية من الذكريات الحلوة التي جمعت ثلاثتهم بللت جوفه الملتهب .. ولكن الفكرة البركانية مازالت تزأر في رأسه.. كان الليل والبرد القارص يلفان أهل الحارة والحارات الأخري بحزام حديدي من الصمت المميت حتى خيل إليه أن قيامتهم قد قامت أو أنهم كأهل الكهف أيقاظ نيام في رحلة أبدية بدأت بالصمت وأنتهت بالعدم .. ألتقط النصل ودسه في جيب السويتر الداخلي .. هبط درجات السلم في سرعة البرق رغم يقينه بأن هناك سلمتان مكسورتان .. وأن بير السلم تندلع منه عتمة موحشة .. في هذه الساعة من الليل لم يجد شيء يدل علي أن هناك أحد مستيقظ .. واري جسده النحيل خلف باب المنزل وأطل برأسه ليرقب الحارة قبل ان يخرج .. لم يري سوي الصمت والظلام يتسابقان في صراع أخرس مع الليل .. الأضواء المنبعثة من الأعمدة المتهالكة واهنة ومترامية بتراخي وكسل فوق الإسفلت الذي غسله المطر .. أمتطي جانب الطريق حتى صار ملتصقا بجدران المنازل الواقفة كأشباح في جمود واستسلام أخرس للمجهول ..مد يده في جيبه يتحسس النصل .. تأكد من وجوده ساخنا ينبض مع نبضات قلبه.. فضت صيحة عسكري الدورية بكارة صمت المكان وهو يزعق.. هيه .. مين هناك ؟وكانت الأزرار النحاسية لسترته تلمع تحت الأضواء الشاحبة.. اختبأ خلف أحد الأعمدة الخرسانية كادت دقات قلبه المتلاحقة أن تفضحه لولا أنه كتم أنفاسه لثواني.. شعر بالإختناق.. يحفظ عنوان صديقهم الذي غرر بصديقه ماهر وقضي عليه..مرق فوق الكوبري .. تم التعارف بين ثلاثتهم منذ زمن ليس بالقصير ..تقاطيعه الساحرة..وجهه المترقرق الهادئ الملامح .. الشفتان المرسومتان بدقة وتناسق ..الطول الفارع .. الجسم الأنسيابي..في لغته وشوشة وهمس يثير الأنسلاب..لماذا هانت الصداقة.. لماذا غدر وخان لماذا قضي علي صديقهما ماهر ..لابد من الثأر ..القصاص..وجده نائما في وداعة وهدوء كأنه لم يفعل شيء .. أخرج النصل ..أخذته حالة هستيرية ..أرتعشت مفاصله ..أرتجفت يده .. بعد أن صار في مواجهته وهو مازال نائما ..أقترب منه ..خاطبه ..أحببناك ووثقنا بك.. لماذا خنته وسلبت روحه وقد جاءك يلقي إليك بكل همومه وعذاباته ..لماذا أجهزت عليه وهو يحتضنك ؟
سأقتلك .. وسأهبط من هذا الأرتفاع الهائل بهذا النصل وأغمده في قلبك الخائن وسأنتقم لصديقي منك .. " أيها النهر القاتل" .