أشياء لم تحدث ) قصة : ناصر البدري (
___________________________________________________________
-1-
منذ زمن بعيد .. لم يجلس في شرفته ساعة الغروب ليراقب العشاق المتخيلين وهم يسبحون في المراكب الصغيرة علي صفحة الأسفلت، ولم يسهر بالليل ليبعث بأغنياته الحزينة للنجوم البعاد، ولم ير القمر وهو يبعثر فضته علي تراب الحارة الضيقة، ولم يضل شعاع شمس وحيد طريقه لينكسر علي زجاج نافذته المهشم ، ولم يصح علي صوت عصفور غرّير حط علي سراب الحنطه في بقايا الشيش، ولم تدخل الفراشات السوداء الأتيه من حقل المداخن القريب لتسرق الضوء من مصباح حجرته .. تلك المطلة علي حوائط الأسمنت .
-2 -
منذ زمن بعيد .. لم يمسك بيده وهو خارج ليشتري له الملابس الجديدة، ولم يأخذه إلى سوق العيد ليركب المركب الصغيرة التي تسبح في الهواء ويشاهد الصبية الذين يقتلون عرائس الحديد العارية داخل عربات البمب، والرجل الذي يأكل النار ويلهو مع الثعابين وسط دائرة كبيرة من الأطفال المشدوهين، ولم يرجع معه إلى البيت ممسكاً بطرف الخيط المربوط في البالونة الحمراء المسحورة التي تطير في السماء .. أيضاً لم ينتظره في الشرفة وهو عائد في المساء يحمل في يده أكياس الفاكهة وفي جيوبه قطع الحلوى، ولم يسهر بجواره طوال الليل ليضع كمادات الثلج علي رأسه المشتعل عندما تصيبه الحمي .
حتى لم يغضب منه وهو يضربه يوم أن عاد متـأخراً وقد أضاع حقيبة كتبه أثناء ما كان يلعب الكرة بجوار سور المدرسة .. ذلك الولد الذي مات أبوه قبل أن يولد .
- 3 -
منذ زمن بعيد .. لم يتعمد الذهاب متأخراً نصف الساعة ( ذلك الشاب الذي يكره الانتظار ) هناك حيث تنتظر هي قلقة تهز ساقيها المرمريتين في توتر شديد وتشْرد .
_ أيفعلها اليوم ؟ ..
لم يحادثها بعد في أمر الزواج ، ولم يقل لها انه لا يستطيع سوي " دبلتين " فقط وأن عليها الانتظار خمسة أعوام ، ولم توافق هي بعد علي الإقامة مع أمه في بيت واحد .. أيضاً لم تأخذ قراراً بعد بشأن تأجيل أمومتها خمسة أعوام أخرى .. تلك الفتاه الجميلة ذات الوجه الأبيض المضيء والعيون السوداء العميقة والقلب الفسيح التي تجلس في المكان الهادئ المطل علي النهر .. بالتحديد .. علي المنضدة الأخيرة القريبة من صفحة الماء الملون بدوائر الضوء، والتي تسبح فوقها طيور الأوز البيضاء .. هناك حيث لم يذهب هو قد .
- 4 -
منذ زمن بعيد لم يداعب رغبات زوجته النائمة إلى جواره في الفراش، ولم تتشاجر هي معه بسبب تأخره الليلي عن المنزل، ولم يرتبا معا تفاصيل حفل عيد ميلاد ابنتهما الصغيرة ، ولم يختلفا حول نوع المدارس التي يجب أن يذهب إليها ابنهما الأكبر ، ولم تذكره وهو خارج في الصباح بموعد سداد فاتورة الكهرباء وقسط الغسالة، ولم يذهبا في يوم عيد زواجهما ( الذي لم يحدث بعد ) ليستعيدا معاً ذكريات تلك المشاجرة التي حدثت بين أسرتين اختلفا حول من سيشتري خشب المطبخ ويضحكان .. هناك في المكان الذي لم يذهب إليه قط ذلك الرجل الذي يجلس منذ زمن بعيد إلى جوار وحدته .
- 5 -
منذ زمن بعيد .. لم يغادر حجرته الضيقة الكئيبة ذات السقف الواطئ والحوائط الجهمة ..ذلك الطفل .. الصبي .. الشاب .. الكهل .. الجثة
مجلة الحرس الوطني(السعودية) – العدد158- أكتوبر 1995
كتاب الأدباء(هيئة قصور الثقافة- مصر) – العدد13 –أكتوبر
199موقع القصة العربية 21 -12-2005
ملتقي أسمار الأدبي 22-2- 2006