لماذا كان الحج عرفة؟
في الحج يلبس الناس لباسا واحدا لا يعرف التفرقة بين الطبقات المستعارة، ولا بين الألقاب المجوفة، فلا تكاد تميز بين أمير ومأمور، وكبير وصغير، ورئيس ومرؤوس، ووجيه ومغمور.
(لبيك اللهم لبيك)، كلمات معاهدة بين الله وعبده، ألا يخلد لحياته على سابق عهدها قبل الحج، بل يجب عليه أن يبدأ العمل وفق منظومة جديدة قوامها الطاعة والاستقامة.
إذا كانت الحياة - من وجهة نظر الدنيويين - تقوم على المادة والجاه وغيرهما، في محاولة لتحقيق الراحة والطمأنينة والسعادة المؤقتة، فإنها من وجهة نظر الإسلام تقوم أولا على العبودية لله، وإفراده بالوحدانية التي ترتقي بالإنسان روحا، وتحقق أمنه النفسي وسعادته الأبدية.
والحج يأتي في مقدمة الشعائر التي تورث المؤمنين التقوى والورع والزهد، ولعل الوقوف بعرفة، وهو الركن الأساس في الحج يدشن هذه المعاني الرائعة، فقد جاء في الحديث: "الحج عرفة" (رواه أحمد وأبو داود والترمذي)، فمن فاته الوقوف فقد فاته الحج.
فكم وقفت بساحة عرفات جموع، وسالت على صعيده دموع، وتعارف عليه الناس، وذابت على ثراه الأجناس، وقُبِلَ ضعيفٌ، ورُد شديد المراس، كم تعانقت فوقه قلوب، وفرجت شدائد وكروب، ومحيت أوزار وذنوب.
كم امتزجت فيه دموع المذنبين، واختلطت رغبات الراغبين، وتداخلت أصوات المستغفرين.. كم خلصت عليه النيات، وسالت على حصبائه العبرات، وذل أهل الأرض لخالق الأرض والسموات.
فقد وقف الحجاج في كل مشعر ** يلبون للرحمن يدعونه ربـا
وقـد جمع الله القلوب عزيـزة ** على عرفات فامتلأت حبـا
وإذا تأملنا في حديثه صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة" واستحضرنا موقف الناس في هذه البقعة المباركة، فإننا نجد فيه الكثير من المعاني السامية والمثل الرفيعة والقيم السامقة التي جاء بها الدين الحنيف، ومنها:
الأمة الواحدة:
حيث يجتمع الناس في صعيد واحد، يتجهون إلى رب واحد، ويسألونه ويتضرعون إليه في وقت واحد، ولسان حالهم يردد قول الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}... (الأنبياء: 92) "إن هذه أمتكم، أمة الأنبياء، أمة واحدة، تدين بعقيدة واحدة، وتنهج نهجا واحدا، وهو الاتجاه إلى الله دون سواه. أمة واحدة في الأرض، ورب واحد في السماء، لا إله غيره، ولا معبود إلا هو.. أمة واحدة وفق سنة واحدة" (في ظلال القرآن).
وفى هذا التجمع العظيم وفى هذا المؤتمر الموسع يناقش المسلمون قضاياهم وهمومهم، ويتباحثون في شتى أمورهم السياسية والاقتصادية والثقافية والتجارية، ويتحاورون في المشاكل الفكرية والاجتماعية وصولا إلى الحلول الصحيحة، وإلى وحدة تكفل لهم القوة والاتحاد، فتعود للأمة الإسلامية عزتها ومكانتها وأمجادها وصدارتها في مقدمة الأمم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}... (آل عمران : 110).
إنه المكان الذي يجمع علماء السياسة والاجتماع والاقتصاد والشريعة والفلك والطب والهندسة والبرمجيات.. وغيرها من العلوم، فإذا بعقل الأمة "الجمعي" يتكون حينما يجتمع كل أهل فن واختصاص فيقررون للأمة سياستها، ويرسمون لها منهاجها، فلا تزال الدنيا جميعها تسمع صوت الإسلام عاليا نديا عادلا أبدا.
وفي ذلك المكان تجد الأبيض والأسود والأحمر، الشامي والمغربي، العربي والأعجمي، وحينئذ نتذكر أبا بكر العربي، وبلالا الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيبا الرومي، فهي وحدة تتجسد، ومعان تتأصل، وقيم تتمنهج عبر مراحل التاريخ المختلفة، وهذه هي إحدى روائع هذا الدين الذي ما فرق يوما بين لون وآخر، أو بين جنس وآخر، وإنما هو الميزان الحق: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}... (الحجرات: 13).
إنه الإعلان عن الوطنية الإسلامية الجامعة التي يريدها الإسلام، ويدعو إليها؛ وطنية العقيدة التي تشهد بأن كل بلد فيه مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، وطن عندنا له حرمته وقداسته.
المساواة التامة:
وليست هذه المساواة فقط بوقوف الناس في مكان واحد: إنما أيضا بلباس الناس للباس واحد لا يعرف التفرقة بين الطبقات "المستعارة" ولا بين الألقاب "المجوفة"، فلا تكاد تميز بين أمير ومأمور، وكبير وصغير، ورئيس ومرؤوس، ووجيه ومغمور، إذ كل أولئك قد سوى بينهم المظهر الجديد، فلا اختلاف ولا تمييز: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ}... (الأعراف: 26).
إن هذا اللباس الذي يلبسه الحاج في حجه وسعيه ووقوفه؛ هو تذكير من الله بهذه النقلة الخطيرة من الدار الدنيا إلى الدار الآخرة، إنه المثل يُضرب أمامه، وينفذه بكامل إرادته، فيترك بلده وولده، ويأتي إلى مكان آخر بلباس آخر، وكأن الله يريد أن يقول لذلك الإنسان: إنه لابد من الرجعة إلى الله للحساب.. وكما أننا تجردنا من ملابسنا لنلبس ملابس الإحرام، فلا بد كذلك من التجرد من كل ما نملك عند الرجعة إلى الله.
التذكير بيوم الحشر:
الوقوف بعرفة يذكر الإنسان بهذه الحقيقة التي كثيرا ما يغفل عنها، ألا وهى يوم الحشر: فقد عقب الله على مناسك الحج بقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}... (البقرة: 203)، وكأن الإنسان في هذا الموقف المهيب، وهذا الزحام الشديد أشبه حالا بموقف الحشر.
وإن الناظر الذي يشاهد هذا المنظر ليتذكر قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ}... (يس: 51)، "فالكل يترك بلده ووطنه وأهله ملبيا مجيبا للنداء العلوي الجميل، ويذهب إلى هناك، تاركا حياة هي أشبه بحياة الموتى بين القبور، مقبلا على حياة أخرى، حيث البعث والروح الجديد!! إنها مسارعة ومسابقة إلى الله.. إنه السير نحو ملكوت الله، إنه نداء الفطرة يلبى، وإنها لحياة أخرى تُحيا، فقد امتلأت الجنبات من كل مكان، وتوافد الناس من كل طريق، والكل إلى هناك.. إلى ربهم ينْسِلون"
الحاجة إلى المغفرة:
إن حال المسلم حينئذ - وهو أشعث أغبر - ليمثل الحقيقة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: "رُب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره".. (رواه مسلم) فهو موطن لإجابة الدعاء، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ينزل في هذا اليوم إلى السماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: "انظروا إلى عبادي، جاءوني شُعثا غُبرا ضاحين، جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم يُرَ يوم أكثر عتقا من النار من يوم عرفة".. (رواه البزار).
عندما يستشعر الإنسان هذا المعنى العظيم، وقيمة هذا الموقف الرهيب، فإنه حينئذ لا يكاد يفتر عن الدعاء والتوحيد والذكر لله سبحانه، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"... (أخرجه ابن أبي شيبة).
فيتجه الإنسان إلى الله أن يشرح له صدره، وييسر له أمره، يستعيذ بالله من وساوس الصدر وشتات الأمر وفتنة القبر، يستعيذ بالله من شر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، ومن شر ما تهب به الريح.. يسأل الله أن ينقله من ذل المعصية إلى عز الطاعة، وأن يكفيه بحلاله عن حرامه، وأن يغنيه بفضله عمن سواه، ويسأل الله الهدى والتقى والعفاف والغنى.
وما رُئِي الشيطان - كما يذكر النبي صلى الله عليه وسلم - في موقف أغيظ، ولا أدحر، ولا أصغر منه في موقف عرفة، وذلك لما يرى من سعة رحمة الله سبحانه ومغفرته لعباده... (رواه البيهقي).
اكتمال الدين
ففي الصحيحين عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه "أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين: آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، اتخذنا ذلك اليوم عيدا، فقال: أية آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}... (المائدة : 3)، فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بعرفة يوم جمعة"، فها هي منازل الوحي، وها هو موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا في الناس: ".. وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدى أبدا: كتاب الله وسنتي".
عزيمة وعهد:
ثم إن الحاج يردد مرة بعد أخرى: لبيك اللهم لبيك.. لبيك ربي في أمرك، لبيك ربي في نهيك، لبيك ربي في شرعك، لبيك ربي لا شريك لك، فلك الحمد كله، ولك الشكر كله، علانيته وسره.. لا إله غيرك، ولا معبود سواك.. لبيك اللهم لبيك.. كلمات معاهدة بين الله وعبده، ألا يَخْلُد لحياته على سابق عهدها قبل الحج، بل يجب عليه أن يبدأ العمل وفق منظومة جديدة قوامها الطاعة والاستقامة، وعدم الركون إلى الظالمين، والتوبة عن أعمال المخالفين والعاصين، والصبر على تبعات الطريق ولأهواء الحياة.
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}... (هود 112 - 115).
كل هذا يدور في نفوس الحجاج إلى بيت الله الحرام، كلها عهود تقطع ومواثيق تمضى، ولكن لا قيمة لها إن لم تُترجم إلى حياة عملية وسلوك معاش، ومن ثم يبدأ العمل الحقيقي، فيشعر كل حاج بالتغيير الكامل - ونشعر نحن معه بذلك أيضا - من نية إلى نية، ومن قصد إلى قصد، ومن اتجاه إلى اتجاه، ومن عزم إلى عزم.. فتنطلق عاملا لدين الله لا تدخر في العمل لدينك وسعا ولا جهدا ولا مالا، تبايع ربك على نصرة الإسلام أو أن تهلك دونه.
فالعودة من الحج عودة من "مقام العهد" إلى "مقام العمل"، ولا تنتهي مسئوليات الحاج بعد الانتهاء من الحج، بل تزداد وتكبر في حقيقة الأمر.
فيا أخي - إن كنت ممن وفقهم الله لإجابة ذلك النداء الجليل، فاعلم أنها غرة السعادة وفاتحة الخير كله، وعنوان رضا الله، فما دعاك إلا وهو يحبك، وما ناداك إلا ليمنحك {وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}... (البقرة: 268)، وهنيئا لك هذا الحج المبرور، والسعي المشكور، والذنب المغفور، والعمل المأجور.
وإن حالت دون ذلك الحوائل، فصاحب الحجاج بقلبك، ورافقهم في أداء المناسك بروحك، فإن لك مثل ثوابهم إن شاء الله، كما بشر بذلك الحبيب صلى الله عليه وسلم: "إن بالمدينة أقواما ما سرتم سيرا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: حبسهم العذر".
وفقنا الله وإياك إلى حج بيته الحرام، وزيارة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وكتب لنا ولك القبول.
المصدر: موقع إسلام أون لاين
في الحج يلبس الناس لباسا واحدا لا يعرف التفرقة بين الطبقات المستعارة، ولا بين الألقاب المجوفة، فلا تكاد تميز بين أمير ومأمور، وكبير وصغير، ورئيس ومرؤوس، ووجيه ومغمور.
(لبيك اللهم لبيك)، كلمات معاهدة بين الله وعبده، ألا يخلد لحياته على سابق عهدها قبل الحج، بل يجب عليه أن يبدأ العمل وفق منظومة جديدة قوامها الطاعة والاستقامة.
إذا كانت الحياة - من وجهة نظر الدنيويين - تقوم على المادة والجاه وغيرهما، في محاولة لتحقيق الراحة والطمأنينة والسعادة المؤقتة، فإنها من وجهة نظر الإسلام تقوم أولا على العبودية لله، وإفراده بالوحدانية التي ترتقي بالإنسان روحا، وتحقق أمنه النفسي وسعادته الأبدية.
والحج يأتي في مقدمة الشعائر التي تورث المؤمنين التقوى والورع والزهد، ولعل الوقوف بعرفة، وهو الركن الأساس في الحج يدشن هذه المعاني الرائعة، فقد جاء في الحديث: "الحج عرفة" (رواه أحمد وأبو داود والترمذي)، فمن فاته الوقوف فقد فاته الحج.
فكم وقفت بساحة عرفات جموع، وسالت على صعيده دموع، وتعارف عليه الناس، وذابت على ثراه الأجناس، وقُبِلَ ضعيفٌ، ورُد شديد المراس، كم تعانقت فوقه قلوب، وفرجت شدائد وكروب، ومحيت أوزار وذنوب.
كم امتزجت فيه دموع المذنبين، واختلطت رغبات الراغبين، وتداخلت أصوات المستغفرين.. كم خلصت عليه النيات، وسالت على حصبائه العبرات، وذل أهل الأرض لخالق الأرض والسموات.
فقد وقف الحجاج في كل مشعر ** يلبون للرحمن يدعونه ربـا
وقـد جمع الله القلوب عزيـزة ** على عرفات فامتلأت حبـا
وإذا تأملنا في حديثه صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة" واستحضرنا موقف الناس في هذه البقعة المباركة، فإننا نجد فيه الكثير من المعاني السامية والمثل الرفيعة والقيم السامقة التي جاء بها الدين الحنيف، ومنها:
الأمة الواحدة:
حيث يجتمع الناس في صعيد واحد، يتجهون إلى رب واحد، ويسألونه ويتضرعون إليه في وقت واحد، ولسان حالهم يردد قول الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}... (الأنبياء: 92) "إن هذه أمتكم، أمة الأنبياء، أمة واحدة، تدين بعقيدة واحدة، وتنهج نهجا واحدا، وهو الاتجاه إلى الله دون سواه. أمة واحدة في الأرض، ورب واحد في السماء، لا إله غيره، ولا معبود إلا هو.. أمة واحدة وفق سنة واحدة" (في ظلال القرآن).
وفى هذا التجمع العظيم وفى هذا المؤتمر الموسع يناقش المسلمون قضاياهم وهمومهم، ويتباحثون في شتى أمورهم السياسية والاقتصادية والثقافية والتجارية، ويتحاورون في المشاكل الفكرية والاجتماعية وصولا إلى الحلول الصحيحة، وإلى وحدة تكفل لهم القوة والاتحاد، فتعود للأمة الإسلامية عزتها ومكانتها وأمجادها وصدارتها في مقدمة الأمم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}... (آل عمران : 110).
إنه المكان الذي يجمع علماء السياسة والاجتماع والاقتصاد والشريعة والفلك والطب والهندسة والبرمجيات.. وغيرها من العلوم، فإذا بعقل الأمة "الجمعي" يتكون حينما يجتمع كل أهل فن واختصاص فيقررون للأمة سياستها، ويرسمون لها منهاجها، فلا تزال الدنيا جميعها تسمع صوت الإسلام عاليا نديا عادلا أبدا.
وفي ذلك المكان تجد الأبيض والأسود والأحمر، الشامي والمغربي، العربي والأعجمي، وحينئذ نتذكر أبا بكر العربي، وبلالا الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيبا الرومي، فهي وحدة تتجسد، ومعان تتأصل، وقيم تتمنهج عبر مراحل التاريخ المختلفة، وهذه هي إحدى روائع هذا الدين الذي ما فرق يوما بين لون وآخر، أو بين جنس وآخر، وإنما هو الميزان الحق: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}... (الحجرات: 13).
إنه الإعلان عن الوطنية الإسلامية الجامعة التي يريدها الإسلام، ويدعو إليها؛ وطنية العقيدة التي تشهد بأن كل بلد فيه مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، وطن عندنا له حرمته وقداسته.
المساواة التامة:
وليست هذه المساواة فقط بوقوف الناس في مكان واحد: إنما أيضا بلباس الناس للباس واحد لا يعرف التفرقة بين الطبقات "المستعارة" ولا بين الألقاب "المجوفة"، فلا تكاد تميز بين أمير ومأمور، وكبير وصغير، ورئيس ومرؤوس، ووجيه ومغمور، إذ كل أولئك قد سوى بينهم المظهر الجديد، فلا اختلاف ولا تمييز: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ}... (الأعراف: 26).
إن هذا اللباس الذي يلبسه الحاج في حجه وسعيه ووقوفه؛ هو تذكير من الله بهذه النقلة الخطيرة من الدار الدنيا إلى الدار الآخرة، إنه المثل يُضرب أمامه، وينفذه بكامل إرادته، فيترك بلده وولده، ويأتي إلى مكان آخر بلباس آخر، وكأن الله يريد أن يقول لذلك الإنسان: إنه لابد من الرجعة إلى الله للحساب.. وكما أننا تجردنا من ملابسنا لنلبس ملابس الإحرام، فلا بد كذلك من التجرد من كل ما نملك عند الرجعة إلى الله.
التذكير بيوم الحشر:
الوقوف بعرفة يذكر الإنسان بهذه الحقيقة التي كثيرا ما يغفل عنها، ألا وهى يوم الحشر: فقد عقب الله على مناسك الحج بقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}... (البقرة: 203)، وكأن الإنسان في هذا الموقف المهيب، وهذا الزحام الشديد أشبه حالا بموقف الحشر.
وإن الناظر الذي يشاهد هذا المنظر ليتذكر قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ}... (يس: 51)، "فالكل يترك بلده ووطنه وأهله ملبيا مجيبا للنداء العلوي الجميل، ويذهب إلى هناك، تاركا حياة هي أشبه بحياة الموتى بين القبور، مقبلا على حياة أخرى، حيث البعث والروح الجديد!! إنها مسارعة ومسابقة إلى الله.. إنه السير نحو ملكوت الله، إنه نداء الفطرة يلبى، وإنها لحياة أخرى تُحيا، فقد امتلأت الجنبات من كل مكان، وتوافد الناس من كل طريق، والكل إلى هناك.. إلى ربهم ينْسِلون"
الحاجة إلى المغفرة:
إن حال المسلم حينئذ - وهو أشعث أغبر - ليمثل الحقيقة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: "رُب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره".. (رواه مسلم) فهو موطن لإجابة الدعاء، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ينزل في هذا اليوم إلى السماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: "انظروا إلى عبادي، جاءوني شُعثا غُبرا ضاحين، جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم يُرَ يوم أكثر عتقا من النار من يوم عرفة".. (رواه البزار).
عندما يستشعر الإنسان هذا المعنى العظيم، وقيمة هذا الموقف الرهيب، فإنه حينئذ لا يكاد يفتر عن الدعاء والتوحيد والذكر لله سبحانه، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"... (أخرجه ابن أبي شيبة).
فيتجه الإنسان إلى الله أن يشرح له صدره، وييسر له أمره، يستعيذ بالله من وساوس الصدر وشتات الأمر وفتنة القبر، يستعيذ بالله من شر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، ومن شر ما تهب به الريح.. يسأل الله أن ينقله من ذل المعصية إلى عز الطاعة، وأن يكفيه بحلاله عن حرامه، وأن يغنيه بفضله عمن سواه، ويسأل الله الهدى والتقى والعفاف والغنى.
وما رُئِي الشيطان - كما يذكر النبي صلى الله عليه وسلم - في موقف أغيظ، ولا أدحر، ولا أصغر منه في موقف عرفة، وذلك لما يرى من سعة رحمة الله سبحانه ومغفرته لعباده... (رواه البيهقي).
اكتمال الدين
ففي الصحيحين عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه "أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين: آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، اتخذنا ذلك اليوم عيدا، فقال: أية آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}... (المائدة : 3)، فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بعرفة يوم جمعة"، فها هي منازل الوحي، وها هو موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا في الناس: ".. وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدى أبدا: كتاب الله وسنتي".
عزيمة وعهد:
ثم إن الحاج يردد مرة بعد أخرى: لبيك اللهم لبيك.. لبيك ربي في أمرك، لبيك ربي في نهيك، لبيك ربي في شرعك، لبيك ربي لا شريك لك، فلك الحمد كله، ولك الشكر كله، علانيته وسره.. لا إله غيرك، ولا معبود سواك.. لبيك اللهم لبيك.. كلمات معاهدة بين الله وعبده، ألا يَخْلُد لحياته على سابق عهدها قبل الحج، بل يجب عليه أن يبدأ العمل وفق منظومة جديدة قوامها الطاعة والاستقامة، وعدم الركون إلى الظالمين، والتوبة عن أعمال المخالفين والعاصين، والصبر على تبعات الطريق ولأهواء الحياة.
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}... (هود 112 - 115).
كل هذا يدور في نفوس الحجاج إلى بيت الله الحرام، كلها عهود تقطع ومواثيق تمضى، ولكن لا قيمة لها إن لم تُترجم إلى حياة عملية وسلوك معاش، ومن ثم يبدأ العمل الحقيقي، فيشعر كل حاج بالتغيير الكامل - ونشعر نحن معه بذلك أيضا - من نية إلى نية، ومن قصد إلى قصد، ومن اتجاه إلى اتجاه، ومن عزم إلى عزم.. فتنطلق عاملا لدين الله لا تدخر في العمل لدينك وسعا ولا جهدا ولا مالا، تبايع ربك على نصرة الإسلام أو أن تهلك دونه.
فالعودة من الحج عودة من "مقام العهد" إلى "مقام العمل"، ولا تنتهي مسئوليات الحاج بعد الانتهاء من الحج، بل تزداد وتكبر في حقيقة الأمر.
فيا أخي - إن كنت ممن وفقهم الله لإجابة ذلك النداء الجليل، فاعلم أنها غرة السعادة وفاتحة الخير كله، وعنوان رضا الله، فما دعاك إلا وهو يحبك، وما ناداك إلا ليمنحك {وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}... (البقرة: 268)، وهنيئا لك هذا الحج المبرور، والسعي المشكور، والذنب المغفور، والعمل المأجور.
وإن حالت دون ذلك الحوائل، فصاحب الحجاج بقلبك، ورافقهم في أداء المناسك بروحك، فإن لك مثل ثوابهم إن شاء الله، كما بشر بذلك الحبيب صلى الله عليه وسلم: "إن بالمدينة أقواما ما سرتم سيرا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: حبسهم العذر".
وفقنا الله وإياك إلى حج بيته الحرام، وزيارة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وكتب لنا ولك القبول.
المصدر: موقع إسلام أون لاين