يقول الله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.. البقرة الآية 249.
وقصة هذا الموقف تبدأ من أن قوما من بني إسرائيل كانوا قد اعتدى عليهم من أعداء لهم فأخرجوا من ديارهم وسلبت بلادهم و أموالهم من بعد موسى فطلبوا من نبي لهم وهو (سمعون) أن يأذن الله لهم في القتال والجهاد و أن يؤمروا به. فأجابهم بقوله: {هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا} فأجابوه على قوله وأي شئ يمنعنا من أن نقاتل في سبيل الله وحالنا أننا أخرجنا من ديارنا وبسبب ذراعينا؟ واستجاب الله لطلب نبيهم وفرض عليهم القتال والجهاد .فلما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة وعادت أفكارهم إلى مباشرة الحرب وأن نفوسهم ربما قد تذهب تولوا واضطربت نياتهم وفترت عزائمهم وهذا هو شأن بني إسرائيل، والأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة تتمنى الحرب أوقات الأنفة فإذا حضرت الحرب نكصت على عقبها وعادت لطبيعتها {فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين}. وقد أخبرهم نبيهم بأن الله قد اختار لهم ملكا وقائدا يقودهم إلى النصر وعينه لهم وهو طالوت وكان سقاءا أو دباغا وكان علما وكان من سبط بميامين ولم يكن من سبط النبوة ولا من سبط الملك وكان الملك في سبط يهوذا، و النبوة في سبط بني لآوى. وكما هي عادة بني إسرائيل في اللجاجة والجدال قالوا: كيف يملكنا ونحن أحق بالملك منه لأننا من سبط الملوك وهو ليس كذلك وهو فقير أيضا فأجابهم بأن هذا هو قدر الله واختياره {إن الله اصطفاه عليكم}. وبين لهم علة اختيار الله له وأنه أعطى مرشحات ومؤهلات القيادة وهي أنه أوتى بسطة في العلم الذي هو ملاك الإنسان. والجسم الذي هو معينه في الحرب وعدته عند اللقاء {والله يؤتي ملكه من يشاء}، وبين لهمك نبيهم أن علامة ملكه أن يأتيهم التابوت الذي هو علامة نصرهم وانه تكون فيه سكينة من ربكم و أن فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون وهي عصا موسى وعصا هارون وعمامة هارون وما تكسر من ألواح التوراة وأن الملائكة تأتي حاملة له إليهم كي يطمئنوا بتحقيق النصر. ونظر طالوت إلى فرقة جيشه وغلب على ظنه وفراسته أن هذا الجيش أشبه بجيوش الاستعراض التي لم تصقلها التجارب ولم تصفها المحن فأراد أن يجري تجربة لجيشه كي يميز الخبيث من الطيب والغث من السمين فسار بهم أياما في الصحراء حتى أجدهم التعب ونال منهم الظمأ مبلغه. ثم قال لهم: {إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده}، ومعنى هذا الابتلاء أنه اختيار لهم فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه مطيع فيما عدا ذلك ومن غلبته شهوته في الماء وعصى الأمر فهو في العصيان في الشدائد أحرى وقد روى أنهم أتوا النهر وقد أنالهم عطش شديد والنهر في غاية العذوبة والحسن. وقد رخص للمطيعين في اغتراف غرفة باليد ليرتفع عنهم بها أذى العطش وليكسر نزاع النفس وهواها فماذا كانت نتيجة هذا الاختبار؟ {فشربوا منه إلا قليلا منهم} وقد روى أن عدد جيش طالوت كان ثمانين ألفا فشرب القوم على قدر إيمانهم إذ شرب الكفار شرب الهيم وشرب العاصون دون ذلك. وأنصرف من القوم ستة وسبعون ألفا وبقى بعض المؤمنين لم يشرب شيئا وأخذ بعضهم الغرفة، فأما من شرب فلم يرو بل زاد عليه الظمأ ومن ترك الماء فحسنت حاله وكان اجلد منن أخذ الغرفة فلما جاوز النهر هو والمؤمنون معه ونظروا كثرة جيش جالوت وكانوا مائة ألف كلهم شاكوا السلاح {قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت و جنوده}. فقال لهم المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله وهم الذين لم يشربوا أبدا وهم أولوا العزم منهم {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله و الله مع الصابرين}. قال البراء بن عازب: كنا نتحدث أن عدة أهل بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا النهر معه وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا. ولما برزوا في المتسع من الأرض وكان جالوت أمير العمالقة وملكهم ورأى المؤمنون كثرة عدوهم تضرعوا إلى الله و قالوا: {ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وأنصرنا على القوم الكافرين}. فأنزل الله عليهم السكينة وثبت أقدامهم في مستنقع الموت وخرج داوود وكان أصغر القوم ووضع حجرا كان في مقلاعه ورمى به جالوت فأصابه فقتله واجتز رأسه وجعله في مخلاته واختلط الناس وحمل أصحاب طالوت على جند جالوت {فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}. هذه هي فراسة القيادة الحكيمة الملهمة من ربها الوثيقة الصلة بخالقها الحازمة في رعيتها التي تحي في معية الله وتلك هي عزيمة المؤمنين الذين اتقوا والذين هم محسنون، العزيمة الصابرة المثابرة المرابطة المتقية المتوكلة على الله يحقق الله لها النصر ولو كان عدد أصحابها قليلا ولو كانت عدتهم أقل ولو كانوا ضعافا فالنصر دائما معقود بنواصيهم. كما قال صلى الله عليه و سلم: (هل ترزقون وتنصرون إلا بضعافكم) فتلك أسباب النصر التي نصر بها الأولون وهي معدومة عندنا وغير موجودة فينا، فاللهم ارزق أمتنا حزما في قيادتها وعزيمة في رعيتتها وجنودها ليزول ما حل من ظهور الفساد وكثرة الطغيان وقلة في الرشاد وعموم في الفتن وعظم في المحن ولا عاصم إلا من رحم الله.
وقصة هذا الموقف تبدأ من أن قوما من بني إسرائيل كانوا قد اعتدى عليهم من أعداء لهم فأخرجوا من ديارهم وسلبت بلادهم و أموالهم من بعد موسى فطلبوا من نبي لهم وهو (سمعون) أن يأذن الله لهم في القتال والجهاد و أن يؤمروا به. فأجابهم بقوله: {هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا} فأجابوه على قوله وأي شئ يمنعنا من أن نقاتل في سبيل الله وحالنا أننا أخرجنا من ديارنا وبسبب ذراعينا؟ واستجاب الله لطلب نبيهم وفرض عليهم القتال والجهاد .فلما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة وعادت أفكارهم إلى مباشرة الحرب وأن نفوسهم ربما قد تذهب تولوا واضطربت نياتهم وفترت عزائمهم وهذا هو شأن بني إسرائيل، والأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة تتمنى الحرب أوقات الأنفة فإذا حضرت الحرب نكصت على عقبها وعادت لطبيعتها {فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين}. وقد أخبرهم نبيهم بأن الله قد اختار لهم ملكا وقائدا يقودهم إلى النصر وعينه لهم وهو طالوت وكان سقاءا أو دباغا وكان علما وكان من سبط بميامين ولم يكن من سبط النبوة ولا من سبط الملك وكان الملك في سبط يهوذا، و النبوة في سبط بني لآوى. وكما هي عادة بني إسرائيل في اللجاجة والجدال قالوا: كيف يملكنا ونحن أحق بالملك منه لأننا من سبط الملوك وهو ليس كذلك وهو فقير أيضا فأجابهم بأن هذا هو قدر الله واختياره {إن الله اصطفاه عليكم}. وبين لهم علة اختيار الله له وأنه أعطى مرشحات ومؤهلات القيادة وهي أنه أوتى بسطة في العلم الذي هو ملاك الإنسان. والجسم الذي هو معينه في الحرب وعدته عند اللقاء {والله يؤتي ملكه من يشاء}، وبين لهمك نبيهم أن علامة ملكه أن يأتيهم التابوت الذي هو علامة نصرهم وانه تكون فيه سكينة من ربكم و أن فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون وهي عصا موسى وعصا هارون وعمامة هارون وما تكسر من ألواح التوراة وأن الملائكة تأتي حاملة له إليهم كي يطمئنوا بتحقيق النصر. ونظر طالوت إلى فرقة جيشه وغلب على ظنه وفراسته أن هذا الجيش أشبه بجيوش الاستعراض التي لم تصقلها التجارب ولم تصفها المحن فأراد أن يجري تجربة لجيشه كي يميز الخبيث من الطيب والغث من السمين فسار بهم أياما في الصحراء حتى أجدهم التعب ونال منهم الظمأ مبلغه. ثم قال لهم: {إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده}، ومعنى هذا الابتلاء أنه اختيار لهم فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه مطيع فيما عدا ذلك ومن غلبته شهوته في الماء وعصى الأمر فهو في العصيان في الشدائد أحرى وقد روى أنهم أتوا النهر وقد أنالهم عطش شديد والنهر في غاية العذوبة والحسن. وقد رخص للمطيعين في اغتراف غرفة باليد ليرتفع عنهم بها أذى العطش وليكسر نزاع النفس وهواها فماذا كانت نتيجة هذا الاختبار؟ {فشربوا منه إلا قليلا منهم} وقد روى أن عدد جيش طالوت كان ثمانين ألفا فشرب القوم على قدر إيمانهم إذ شرب الكفار شرب الهيم وشرب العاصون دون ذلك. وأنصرف من القوم ستة وسبعون ألفا وبقى بعض المؤمنين لم يشرب شيئا وأخذ بعضهم الغرفة، فأما من شرب فلم يرو بل زاد عليه الظمأ ومن ترك الماء فحسنت حاله وكان اجلد منن أخذ الغرفة فلما جاوز النهر هو والمؤمنون معه ونظروا كثرة جيش جالوت وكانوا مائة ألف كلهم شاكوا السلاح {قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت و جنوده}. فقال لهم المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله وهم الذين لم يشربوا أبدا وهم أولوا العزم منهم {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله و الله مع الصابرين}. قال البراء بن عازب: كنا نتحدث أن عدة أهل بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا النهر معه وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا. ولما برزوا في المتسع من الأرض وكان جالوت أمير العمالقة وملكهم ورأى المؤمنون كثرة عدوهم تضرعوا إلى الله و قالوا: {ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وأنصرنا على القوم الكافرين}. فأنزل الله عليهم السكينة وثبت أقدامهم في مستنقع الموت وخرج داوود وكان أصغر القوم ووضع حجرا كان في مقلاعه ورمى به جالوت فأصابه فقتله واجتز رأسه وجعله في مخلاته واختلط الناس وحمل أصحاب طالوت على جند جالوت {فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}. هذه هي فراسة القيادة الحكيمة الملهمة من ربها الوثيقة الصلة بخالقها الحازمة في رعيتها التي تحي في معية الله وتلك هي عزيمة المؤمنين الذين اتقوا والذين هم محسنون، العزيمة الصابرة المثابرة المرابطة المتقية المتوكلة على الله يحقق الله لها النصر ولو كان عدد أصحابها قليلا ولو كانت عدتهم أقل ولو كانوا ضعافا فالنصر دائما معقود بنواصيهم. كما قال صلى الله عليه و سلم: (هل ترزقون وتنصرون إلا بضعافكم) فتلك أسباب النصر التي نصر بها الأولون وهي معدومة عندنا وغير موجودة فينا، فاللهم ارزق أمتنا حزما في قيادتها وعزيمة في رعيتتها وجنودها ليزول ما حل من ظهور الفساد وكثرة الطغيان وقلة في الرشاد وعموم في الفتن وعظم في المحن ولا عاصم إلا من رحم الله.