من أجدر ما يربي به العبد نفسه وغيره سيرته صلى الله عليه وسلم، ففيها معالم عظيمة يهتدي بها المربون.. ونختار بعض الحوادث والوقائع, ونبيّن ما نستفيده منها من دروس نافعة في تربية أنفسنا وغيرنا.. في تعاملاتنا وعلاقاتنا وسائر أحوالنا, حتى نكون على مستوى أدب هذا الدين الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم, ليزكينا من كل المساوئ والمنكرات..
وقضية الأدب والخلق قضية عظيمة في هذا الدين، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))، ولذا كان السابقون من السلف الصالح يحرصون أشد الحرص على تأديب أنفسهم بأدب الإسلام في كل شيء، وكانوا يقدمون الأدب قبل العلم.. قال ابن المبارك رحمه الله: تعلمت الأدب ثلاثين سنة وتعلمت العلم عشرين سنة.
وقال الحسن البصري رحمة الله: إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين.
وقال ابن سيرين رحمة الله: كانوا ـ أي الصحابة رضوان الله عليهم ـ يتعلمون الهدي ـ أي السيرة والهيئة والطريقة ـ كما يتعلمون العلم.
وقال حبيب ابن الشهيد الفقيه لابنه: يا بني, اصحب الفقهاء والعلماء وتعلم منهم وخذ من أدبهم، فإن ذلك أحب إليّ من كثير من الحديث.
وقال بعضهم لابنه: يا بني, لأن تتعلم بابًا من الأدب أحب إليّ من أن تتعلم سبعين بابًا من أبواب العلم.
وقال مخلد بن الحسين ـ المتوفى سنة 191هـ ـ لابن المبارك رحمه الله: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث. يقول ذلك في القرون المفضلة, فكيف لو رأى سوء أدبنا في هذا الزمان.
وقيل للشافعي رحمه الله: كيف شهوتك للأدب؟ فقال: أسمع بالحرف منه مما لم أسمعه فتود أعضائي أن لها أسماعًا فتنعم به. قيل: وكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها وليس لها غيره. وقال رحمه الله: ليس العلم بما حُفظ، العلم ما نفع.
فهلموا نتعلم شيئًا من الأدب من هديه صلى الله عليه وسلم... ونبدأ بما رواه مسلم في صحيحه:
1- روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت, أي لم يخالطوهن ولم يساكنوهن في بيت واحد، فسأل أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة:222). فقال صلى الله عليه وسلم: ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح))، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا, أفلا نجامعهن؟! ـ لعلهما قصدا, والله أعلم, إمعانًا في مخالفتهم ـ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ لأن ما ذكراه غير ممكن شرعًا وغير لائق طبعًا وعقلاً، فلا يمكن الترخيص فيه بحجة المخالفة لليهود ـ حتى ظننا أن قد وجد عليهما ـ أي غضب ـ فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أنه لم يجد عليهما. شرح النووي (3/211، 212).
فتأمل كيف كان صلى الله عليه وسلم مراعيًا لنفسيْ صاحبيه، حريصًا على أن يدفع عنهما ما قد يصيبهما من تغير أو ضيق أو حزن لا موجب أو لا سبب له في الحقيقة، وإنما يؤدي ظاهر بعض المواقف أحيانًا إلى شيء من هذا، حيث تفهم خطأ فيحسن سرعة إزالة الالتباس والآثار الناتجة من هذا؛ لتبقى النفوس صافية منشرحة، وهنا طيّب صلى الله عليه وسلم نفوسهما بهذه الطريقة العملية اللطيفة، حيث أرسل من يدرك الرجلين ليأتي بهما ليشربا من هذا اللبن الذي أهدي إليه صلى الله عليه وسلم، فعرف الرجلان أنه صلى الله عليه وسلم لم يغضب منهما.
ومثل هذه المواقف يتكرر كثيرًا.. حيث يحزن البعض بسبب موقف ما، وعند التمحيص لا تجد أحدًا مخطئًا، ولكن ربما تصرف البعض في هذا الموقف تصرفًا ظاهره قد يوحي بالإساءة لفلان وهو في الحقيقة ليس كذلك.. فيحزن فلان، والأول يصر على عدم إزالة الحزن عنه بحجة أنه لم يخطئ في حقه, ويسعى الشيطان في زيادة الشر والوحشة بينهما، لذا فمن أحسّ من نفسه في موقف ما أنه بدر منه شيء ما من تعبيرات أو نظرات أو تصرفات يحتمل أن تفهم على أنها إساءة، فينبغي عليه سرعة إزالة ذلك؛ إما ببيان حقيقة الأمر أو بأية طريقة عملية كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يترك المجال للشيطان.
ومن الأمور العجيبة أنك تكون أحيانًا في مجلس عند شخص ما، وإذا بذلك الشخص يكثر التأفف والتضجر والنفخ حتى تكاد تجزم وبتحريض من الشيطان أنك المقصود بهذا التضجر، وتكون الحقيقية غير ذلك، وإنما هذا الشخص لديه مشكلة ما أو يفكر في أمر ما لم تطلع عليه، وهو يتأفف منه، ولا يدور في باله أن يبيّن لك حقيقة الأمر، وللأسف كأنه وحده، ولا يراعي جلساءه ولا يراعي شعورهم, ولا يلتفت إلى ما يمكن أن يحدثه الشيطان بسبب ذلك.. وذلك من عدم الأدب، وأقل الأمور أن يعتذر ويبيّن لهم أن هناك أمرًا لا يتعلق بهم، أو أن يكفّ عن تأففه ونفخه في وجوههم إلى أن ينصرفوا.. وما أعظم خلقه صلى الله عليه وسلم ـ بأبي هو وأمي ـ إذ يقول عنه خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: أفٍّ قط).
ومن هديه صلى الله عليه وسلم في تطييب نفوس أصحابه وتأليفهم والمبادرة لإزالة ما علق بها من تغيُّر نتيجة لفهم خاطئ ما حكاه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه في غزوة حنين أو أوطاس أو هوازن حين أعطى رسول الله العطايا للمؤلفة قلوبهم من قريش ومن قبائل العرب ولم يعطِ الأنصار شيئًا، فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش، وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت فيهم القالة ـ أي الكلام ـ حتى قال قائلهم: لقي والله رسول صلى الله عليه وسلم قومه ـ ولاشك أن هذا كان سوء فهم من قائله وخطأ في حقه صلى الله عليه وسلم ـ فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك ـ غضبوا ـ في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يكن في الحي من الأنصار منها شيء. قال: ((فأين أنت من ذلك يا سعد؟)) قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال: ((فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة)) ؟ قال: فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا، أتى سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار. فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: ((يا معشر الأنصار, مقالة بلغتني عنكم، وجِدَةٌ وجدتموها عليّ في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وأعداءً فألف بين قلوبكم؟)) قالوا: الله ورسوله أمنّ وأفضل. ثم قال: ((ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟)) قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المنّ والفضل. قال: ((أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدَقتم ولصُدِّقتم: أتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلاً فآسيانك)) ـ وهذا من أعظم الأدب وهو عدم تجاهل أدلة المخالف وحججه ولو كانت غير قوية استغلالاً لحيائه أو غفلته عنها, بل تعترف بها وتصرح بما له ـ ((أوجدتم علي يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعون برسول صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟! فوالذي نفس محمد بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، ولولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وواديًا، وسلكت الأنصار شعبًا وواديًا لسلكت شعب الأنصار وواديها، الأنصار شعار، والناس دثار , اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار)) قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول صلى الله عليه وسلم قسمًا وحظًا. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا .
وقضية الأدب والخلق قضية عظيمة في هذا الدين، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))، ولذا كان السابقون من السلف الصالح يحرصون أشد الحرص على تأديب أنفسهم بأدب الإسلام في كل شيء، وكانوا يقدمون الأدب قبل العلم.. قال ابن المبارك رحمه الله: تعلمت الأدب ثلاثين سنة وتعلمت العلم عشرين سنة.
وقال الحسن البصري رحمة الله: إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين.
وقال ابن سيرين رحمة الله: كانوا ـ أي الصحابة رضوان الله عليهم ـ يتعلمون الهدي ـ أي السيرة والهيئة والطريقة ـ كما يتعلمون العلم.
وقال حبيب ابن الشهيد الفقيه لابنه: يا بني, اصحب الفقهاء والعلماء وتعلم منهم وخذ من أدبهم، فإن ذلك أحب إليّ من كثير من الحديث.
وقال بعضهم لابنه: يا بني, لأن تتعلم بابًا من الأدب أحب إليّ من أن تتعلم سبعين بابًا من أبواب العلم.
وقال مخلد بن الحسين ـ المتوفى سنة 191هـ ـ لابن المبارك رحمه الله: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث. يقول ذلك في القرون المفضلة, فكيف لو رأى سوء أدبنا في هذا الزمان.
وقيل للشافعي رحمه الله: كيف شهوتك للأدب؟ فقال: أسمع بالحرف منه مما لم أسمعه فتود أعضائي أن لها أسماعًا فتنعم به. قيل: وكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها وليس لها غيره. وقال رحمه الله: ليس العلم بما حُفظ، العلم ما نفع.
فهلموا نتعلم شيئًا من الأدب من هديه صلى الله عليه وسلم... ونبدأ بما رواه مسلم في صحيحه:
1- روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت, أي لم يخالطوهن ولم يساكنوهن في بيت واحد، فسأل أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة:222). فقال صلى الله عليه وسلم: ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح))، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا, أفلا نجامعهن؟! ـ لعلهما قصدا, والله أعلم, إمعانًا في مخالفتهم ـ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ لأن ما ذكراه غير ممكن شرعًا وغير لائق طبعًا وعقلاً، فلا يمكن الترخيص فيه بحجة المخالفة لليهود ـ حتى ظننا أن قد وجد عليهما ـ أي غضب ـ فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أنه لم يجد عليهما. شرح النووي (3/211، 212).
فتأمل كيف كان صلى الله عليه وسلم مراعيًا لنفسيْ صاحبيه، حريصًا على أن يدفع عنهما ما قد يصيبهما من تغير أو ضيق أو حزن لا موجب أو لا سبب له في الحقيقة، وإنما يؤدي ظاهر بعض المواقف أحيانًا إلى شيء من هذا، حيث تفهم خطأ فيحسن سرعة إزالة الالتباس والآثار الناتجة من هذا؛ لتبقى النفوس صافية منشرحة، وهنا طيّب صلى الله عليه وسلم نفوسهما بهذه الطريقة العملية اللطيفة، حيث أرسل من يدرك الرجلين ليأتي بهما ليشربا من هذا اللبن الذي أهدي إليه صلى الله عليه وسلم، فعرف الرجلان أنه صلى الله عليه وسلم لم يغضب منهما.
ومثل هذه المواقف يتكرر كثيرًا.. حيث يحزن البعض بسبب موقف ما، وعند التمحيص لا تجد أحدًا مخطئًا، ولكن ربما تصرف البعض في هذا الموقف تصرفًا ظاهره قد يوحي بالإساءة لفلان وهو في الحقيقة ليس كذلك.. فيحزن فلان، والأول يصر على عدم إزالة الحزن عنه بحجة أنه لم يخطئ في حقه, ويسعى الشيطان في زيادة الشر والوحشة بينهما، لذا فمن أحسّ من نفسه في موقف ما أنه بدر منه شيء ما من تعبيرات أو نظرات أو تصرفات يحتمل أن تفهم على أنها إساءة، فينبغي عليه سرعة إزالة ذلك؛ إما ببيان حقيقة الأمر أو بأية طريقة عملية كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يترك المجال للشيطان.
ومن الأمور العجيبة أنك تكون أحيانًا في مجلس عند شخص ما، وإذا بذلك الشخص يكثر التأفف والتضجر والنفخ حتى تكاد تجزم وبتحريض من الشيطان أنك المقصود بهذا التضجر، وتكون الحقيقية غير ذلك، وإنما هذا الشخص لديه مشكلة ما أو يفكر في أمر ما لم تطلع عليه، وهو يتأفف منه، ولا يدور في باله أن يبيّن لك حقيقة الأمر، وللأسف كأنه وحده، ولا يراعي جلساءه ولا يراعي شعورهم, ولا يلتفت إلى ما يمكن أن يحدثه الشيطان بسبب ذلك.. وذلك من عدم الأدب، وأقل الأمور أن يعتذر ويبيّن لهم أن هناك أمرًا لا يتعلق بهم، أو أن يكفّ عن تأففه ونفخه في وجوههم إلى أن ينصرفوا.. وما أعظم خلقه صلى الله عليه وسلم ـ بأبي هو وأمي ـ إذ يقول عنه خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: أفٍّ قط).
ومن هديه صلى الله عليه وسلم في تطييب نفوس أصحابه وتأليفهم والمبادرة لإزالة ما علق بها من تغيُّر نتيجة لفهم خاطئ ما حكاه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه في غزوة حنين أو أوطاس أو هوازن حين أعطى رسول الله العطايا للمؤلفة قلوبهم من قريش ومن قبائل العرب ولم يعطِ الأنصار شيئًا، فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش، وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت فيهم القالة ـ أي الكلام ـ حتى قال قائلهم: لقي والله رسول صلى الله عليه وسلم قومه ـ ولاشك أن هذا كان سوء فهم من قائله وخطأ في حقه صلى الله عليه وسلم ـ فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك ـ غضبوا ـ في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يكن في الحي من الأنصار منها شيء. قال: ((فأين أنت من ذلك يا سعد؟)) قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال: ((فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة)) ؟ قال: فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا، أتى سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار. فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: ((يا معشر الأنصار, مقالة بلغتني عنكم، وجِدَةٌ وجدتموها عليّ في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وأعداءً فألف بين قلوبكم؟)) قالوا: الله ورسوله أمنّ وأفضل. ثم قال: ((ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟)) قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المنّ والفضل. قال: ((أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدَقتم ولصُدِّقتم: أتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلاً فآسيانك)) ـ وهذا من أعظم الأدب وهو عدم تجاهل أدلة المخالف وحججه ولو كانت غير قوية استغلالاً لحيائه أو غفلته عنها, بل تعترف بها وتصرح بما له ـ ((أوجدتم علي يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعون برسول صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟! فوالذي نفس محمد بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، ولولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وواديًا، وسلكت الأنصار شعبًا وواديًا لسلكت شعب الأنصار وواديها، الأنصار شعار، والناس دثار , اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار)) قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول صلى الله عليه وسلم قسمًا وحظًا. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا .